كتابات أبو الحق
الحادي عشر من أيلول
2008
قبل أيام خطر ببالي هذا التساؤل :
" أين رمضان ؟"
أنا أقصد جو رمضان الذي تعودنا عليه في السنين السابقة للأحتلال , اشياء كثيرة إفتقدناها منذ ربيع 2003 ,..لأن هذا التاريخ حمل كل أشكال التغيير للعراق وأهله..
...رمضان في العراق , وفي هذه الألفية الثانية ليس هو رمضان قبلها , فأنا لم اعد أشم رائحة البصل المقلي قبيل إضافته لشوربة العدس , الرائحة التي كانت تنبعث من شبابيك البيوت العتيقة في الدرابين , محلة القطانين , محلة الساعة , وخزرج , مشوار تعودت أن أقطعه في طريقي للبيت قبيل موعد الأفطار كل يوم تقريبا من رمضان كله ...تعودت على تلك الرائحة الزكيّة التي لا أستطيع إلا أن اتذكر رمضان في كل مرة تلامس فيها شعيرات أنفي ..
الناس تحولت عن شوربة العدس إلى شوربات بديلة , لدينا أنواع أخرى كمشتقات الحنطة التي يعرفها الموصليون , التشيشي والسنديغه والحسو , لدينا الماش , ولمن يرى أن يجعل فطوره " كلااااس ومش زيّ الناس", فهناك شوربات ماجي وكنور , و هلم شوربا..!!..لكن هي برأيي لن ترقى لشوربة البيت العراقي أبدا.
رمضان الذي أعرفه يشبه رمضان "باب الحارة" , يجب أن يكون هناك طبال وشلة أولاد ترافقه, لن ينفع أن توقّت الموبايل, فذاك ستايل إلكتروني لا يمت لرمضاني الذي أعرفه...رمضان يترافق عندي مع إبتهالات إندثرت تكاد أن تنمحي من الذاكرة , كما إندثرت مكتبة الصوتيات والمرئيات من الإذاعة والتلفزيون , أشتاق لإنشودة " يا إله الكون إنا لك صمنا , وعلى رزقك أفطرنا وإنّا , لصيام الغد , يا ربّ نوينا , فتقبّل, صومنا يا ربّ منّا"...أشتاق جدا لأبتهال يهز حجرات القلب الأربع , و لم تلد مخيلات الملحنين مثله " إلهي ما أعظمك"..رحم الله رياض السنباطي..
..رمضان غزته فوازير التلفزيون المصري منذ عقود , وأصبح ميدانا تنافسيا لمسلسلات لا حظ لبركات وطاعات رمضان فيها , وتغيرت معالمه تدريجيا , لكن الذاكرة لا زالت تحتفظ بمخزونها القديم ذاك ..يوم أن كنا نصحو قبل السحور , مترنحين من النعاس , وإذاعة إيران تبث إبتهالات "أللهم إني ..أسألك بجاهك.."..لم يكن هناك وقت السحور إلا ذاك المنشد , وتلاوات عبد الباسط وبقية المقرئين في بضعة إذاعات أخرى , كنا نترنح على المنضدة ونتعجب لنشاط الوالدين , كنا نتمنى لو نرجع للفراش عاجلا , وها نحن نرى أبناءنا يعيدون حكاية الزمن المتعاقب ..لم نعد نترنح , لقد أدركنا الصورة جيدا..
صحون من الأطايب تتهادى بها الناس, جيران يرسلون لبعضهم خبزا حارا طازجا شهيا في الساعة الأخيرة قبل مدفع الإفطار , مقابل صحون من الكبة والعروك,والرز العنبر العراقي , سيد أنواع الرز, وهذه الصحون الطائرة لا تتوقف عند أبواب المسلمين من الجيران فقط , فرمضان شهر يزرع شتلات المحبة والجيرة الطيبة وحسن التذمم بين كل جارين متقاربين , مسيحيين ومسلمين , أو أيا كان ما يفرقهم بالهوية , رمضان ترى السيارات تتسابق فيه بجنون قبيل موعد الإفطار بدقائق , حتى من هو ليس بصائم , تراه يجتهد أن يصل للبيت قبل بدء الإفطار ...أين هو رمضان ذاك؟؟؟
رمضان لا تنتهي طقوسه الطعامية بمجرد وجبتي الفطور و السحور, رمضان يحلو بوجبة مشويات خفيفة وفشافيش مقابل جامع أبو حنيفه , أو عند دورة التحريات قرب ساحة عقبة , أو في أي مكان من بغداد وكل مدينة عراقية ,... "شيشين معلاك عالماشي , وأهم شي.. الخبز حار ومفكَع " , لكن أهم شيء فعلا هو أن تسعد نفسك بمنظر الناس المبتهجة وقد خرجت تملأ الشوارع ضجيجا جميلا وحركة تجارية تديم الحياة , لكن أين هو هذا الرمضان اليوم ؟؟
رمضان بدون صلاة تراويح ودشاديش بيضاء ترصّع منظر أزقة البيوت , ليس رمضانا حقا , رمضان يأتي معه نور كثير يملأ الشوارع ويجعل الليل نهارا , رمضان تنطق فيه حناجر مؤذنين ومقرئين من النوع الذي يجعل الصابئة تنصت لسحر البلاغة والتجويد , اين هي تلك الأصوات ؟ أفي الشارقة إستقرت أم في القاهرة, أم في عمّان ؟
رمضان شهر الصدقة والزكاة الأخرى , ليست زكاة الفرض المعروفه , رمضان شهر تتغير فيه النفوس وترخص المادة للمحتاج , في رمضان تسري نسمات و روح أليفة في الجو , لا يعرفها إلا من فتح الله على قلبه , هذه لا زلت أستنشقها والحمد لله, ففي العراقيين دائما فضلة خير وزيادة , مفاتيح خير, مغاليق شر , خلا من لم يفتح لله قلبه ..
رمضان لا يكتمل من دون إبتلاءات , إحباطات مصدرها تصرفات رعناء لا أبالية من الناس في الشارع , تعينهم شياطينهم على التعرض لك كي تفقد أعصابك , هناك مواعيد لا تتحقق , هناك ديون مستحقة لا يتم تسديدها لك , هناك أناس يجهلون عليك في الشارع ويتسافهون بالكلام معك و عليك , هناك عسكر يكسرون عليك الباب وسط هدأة الليل , هناك طابور طويل لوقود السيارة يدوم ساعتان ونصف أو كذا , لينتهي بإمتناع المحطة عن تقديم الخدمات لبقية الطابور الذي لا ترى نهايته , وأنت على مبعدة بضعة سيارات من مدخل المحطة, مع هذا, لا يحق لك أن تسب أو تكفر, أو أن تتبرم كثيرا, رمضان يعينك على التفوق على ذاتك , رغم كل الشر والعدائية التي بداخلك ..رمضان شهر يحمل حمية أو ريجيما للروح وللجسد , ففيه الكثير مما يرشّق النفس ..
رمضان , حبذا لو جاء ببرد وفي أشهر الشتاء , لكن إسمه هو هكذا , مشتقّ من الحر والرمضاء , لأنه حتى وإن حلّ في عز برد الشتاء , فالحر كامن فيه , تعرفه من حرقة العطش ومن إشتهاء كل حلو المذاق , وكل نعمة عزيزة من نعم الله تعالى , رمضان شهر يجعلك تتأمل كثيرا في سحر هذا السائل العديم اللون والطعم والرائحة الذي إسمه " الماء" , لكنه سيّد كل ما له طعم ولون ورائحة, ومثل حال الماء هذا هو حال كل فاكهة وخضرة , وكل طعام..
رمضان حلّ في بلدي , وكثير من أهله خارجه , الكل مكتوي, من بقي ومن غادر , رمضان شهر تُفَتّح فيه ابواب السماوات وأبواب الجنان , فهل تذكّر العراقيون هذه الفضيلة فيه ؟ ...سجدة طويلة متأنية لوجه الله تعالى , وكلمات صادقة من عمق أعماق القلب المدمي , بدءا بإستغفار صادق وتوبة عن كل معصية , ومن ثم مناجاة لمن هو أقرب من حبل الوريد لكل العبيد , إستغاثة بالله الجبار فمن غيره بيده الأمر كله؟؟...إستغاثة وإستعانة بالله ومن قبلها إنابة , ومن يكن الله تعالى سنده فأي همّ يستطيع أن يغلبه ؟
غدا... قريبا... وليس بعيد
غدا يوم أن أغمض عيني إلى الأبد
سأبكي قبيل ذاك ليس من ألمي
سأبكي على أنني سأفارق أنعامك العظمى
على الهواء والماء والخبز الشهي
وكل لقمة طيبة ولحظة صفو هانئة
طيبات كانت عندي دوما عظيمة مهما غضّ الآخرون طرفهم عنها
فالحياة كانت من أكبر هداياكَ لي
ولطفك بي كان من كلّ ذلك أكبرُ
وهدايتك لي من كل هذا الأخير أعظمُ
وعونك كان في الملمّاتِ لي, على جراحي بَلسَمُ
أحببتك دون أن أدري بكنهك أو أرى وجهك
فعظيم خلقك كان لي دليل
سبحانك كيف يجحدك جاحد له أدنى ما
أعطيتَ من نعمة العقل والتدبّر
سبحانك كيف يجرؤ بمعصيته على ناركَ من لم يُطِقْ
أهون ما في منغصات الدنيا هذه من ألم؟؟؟
وخزة إبرة, حرقة جمره , أدنى درجات الورم...
اللهم إني ابوء لك بكل ذنبي وتقصيري وعجزي..
طامعا بقليل القليل من ودّك وعفوك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق