عوني القلمجي
لن اتجاوز على غيري من الكتاب الوطنيين العراقيين الذين ساهموا في كشف حقيقة خروج العراق من الفصل السابع، ووقفوا عند نتائجه، وفيما اذا كانت ذات قيمة وفائدة، ام ان هذا الفصل قد انتهى مفعوله على ارض الواقع منذ عدة سنين واصبح من ملفات الماضي المؤلمة. مثلما تعرضوا له من الناحية القانونية، ان كان العراق قد تخلص من تبعات هذا الفصل نهائيا ام جزئيا، واستندوا في ذلك الى قرار الخروج، الذي تضمن نقل العراق من هذا الفصل الى الفصل السادس، الذي سيتكفل بالاشراف على تنفيذ التزامات العراق المتبقية، مثل ملف التعويضات والمفقودين والممتلكات المسروقة وما يسمى بالارشيف الوطني الكويتي او ترسيم الحدود. وانتهوا الى ان هذا يعطي الحق لمجلس الامن بوضع العراق تحت طائلة الفصل السابع مرة اخرى اذا لم يف بالتزاماته تلك.
بمعنى اخر، فدخولنا في نفس السياق، الذي جرى تغطيته بكفاءة عالية ومشهودة لن يضيف شيئا جديدا او مهما، ان لم يكن تكرارا مملا. ولذلك ساطرق بابا اخر لم ياخذ نصيبه بالقدر الكافي، ان لم يجر تجاهله احيانا. هذا الباب هو الذي حاول نوري المالكي رئيس حكومة الاحتلال الدخول منه، مستغلا تفاؤل الناس وربما فرحتهم بالتخلص من هذا الفصل المجحف والدموي، ليظهر امام الناس على انه المحرر الهمام وبطل الاستقلال. وانه المنقذ المنتظر الذي اصبح بامكانه، من الان فصاعدا، الوفاء بوعوده الكاذبة في بناء العراق الجديد وانهاء معاناة الناس والامهم طيلة سنين الاحتلال العشرة العجاف!!!. بل وصل المالكي الى حد التخبط وتجاهل الحقائق، بما فيها لغة الارقام، حين بشر الشعب العراقي بالاموال المجمدة التي سيطلق سراحها، والتي لا تتجاوز السبعين مليار دولار، كونها ستحقق تلك الجنة الموعودة، ونسى وارادات العراق التي تجاوزت 800 مليار دولار ولم يتم، في عهده، ولا في عهد من سبقه بناء مدرسة نموذجية واحدة، او مستشفى تستحق الذكر او الاشارة.
بطل التحرير العتيد هذا، الذي نصبه المحتل رئيسا للوزراء، باعترافه في اكثر من مناسبة، تناسى بان خروج العراق من هذا الفصل، حتى اذا كان مكتملا وتم دون تقديم تنازلات مذلة ومهينة لامارة الكويت، لا يشكل دليلا ذا قيمة لجهة استقلال العراق ونيل سيادته الوطنية، امام الفصول الاخرى التي كبلت امريكا بها العراق ليكون مستعمرة امريكية بامتياز ولعقود طويلة من السنين، او مئة عام كما قال مرشح الرئاسة ضد باراك اوباما جون ماكين.
لنترك المالكي يسبح في خيالاته المريضة واحلامه الوردية، ونعود الى العراق المحتل، والفصول الاخرى التي جرى تقيده بها في العديد من المجالات، هذه الفصول التي اشرف على تصميمها كبار العقول الامريكية، السياسية والعسكرية والامنية، وبما فيها القانونية ايضا.
حسبنا في هذا المضمار ذكر ثلاث منها. فعلى الجانب السياسي اقام الاحتلال دولة هشة وضعيفة لتكون اداة طيعة تخدم مشروع الاحتلال وتعمل على تكريسه، وليس، كما ادعوا، دولة وطنية مستقلة ذات سيادة وتؤمن لمواطينها حياة حرة وكريمة في ادنى اشكالها. ولضمان ذلك فقد صمم لها المحتل دستورا قسم البلاد والعباد ونظاما يقوم على اساس المحاصصة الطائفية والعرقية والميليشيات المسلحة. حيث ثبت هذا الدستور موادا تشرعن هذه الحالة، ومواد اخرى تمنع اجراء اي تعديل عليه، بل على اي مادة منه. وهذا ما اكدته كل اطراف العملية السياسية، في حين ذهب نوري المالكي اكثر من ذلك واعترف في مؤتمره الصحفي في مدينة اربيل قبل حوالي اسبوعين، بعدم قدرة احد على تعديل حرف منه. وهذا ما يؤكد قول الامريكان للحكومة حينها. " هذا هو الدستور بصيغته النهائية وعليكم الموافقة علية دون تعديل حرف واحد منه".
اما على الجانب الاقتصادي، فقد تكفلت به الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية والنفطية، وفيما يخص ايضا الثروات الضخمة داخل الارض وما فوقها ، حيث تضمنت العديد من المواد التي ترهن الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الامريكي، بل وجعلت بعضها بطريقة غير مباشرة نفط العراق رهينة بيد امريكا. وهذا ينسجم كليا مع بعض اهداف احتلال العراق لتامين احتياجات امريكا النفطية لمدة مئة عام ، كما ورد في تقرير وزارة الطاقة الأميركية حول مستقبل الثروة النفطية الذي ستنفذه بعد ما أسمته " إخلاء العراق من أسلحة الدمار الشامل ". ولتمكنها من تغيير التوازنات القائمة في المنطقة وإقامة نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط. وهذا ما يفسر اتخاذ امريكا لقرارها في عهد الحاكم المدني بول بريمر بوضع النفط امانة بيد امريكا. وبالتالي فان ارتباطات كهذه تجعل اي بلد في خانة البلدان المحتلة.
اما فيما يخص الجانب العسكري والامني، فان الاتفاقية الامنية التي وقعها بوش الابن في نهاية عهده، والتي سماها العراقيون باتفاقية الذل والعار فقد جعلت من العراق مستعمرة امريكية بامتياز. حيث سمحت لامريكا باقامة القواعد العسكرية متى تشاء وفي اي بقعة من ارض العراق، بل واعتبارالعراق ذاته قاعدة عسكرية من شماله الى جنوبه واستخدام اراضيه ومياه واجوائه في حروبها، سواء الاقليمية او الدولية، كما اعطتها الحق المطلق بعودة قواتها العسكرية بذات الحجم او اكثر الذي قامت باحتلال العراق. وهذه الاتفاقيات هي الاخرى غير قابلة للتعديل بدون موافقة الامريكان.
هذا يعني او يدل على ان امريكا جاءت الى العراق وفي مفكرتها قرار واحد ، وهو البقاء الى امد غير منظور، وليس الرحيل، لا طواعية ولا من خلال مفاوضات او صفقات مهما كانت مكاسبها كبيرة. فاحتلال العراق، جاء ضمن مخطط امريكي يسعى للتحكم بمقدرات العالم وشعوبه، وتكون بدايته السيطرة المطلقة على العراق. ليكون الحلقة المركزية للسيطرة على كامل نفط الخليج العربي، وبالتالي فان اي حديث من قبل الحكومة على نيل العراق استقلاله وسيادته الوطنية لمجرد خروج العراق من طائلة الفصل السابع ليس سوى ترهات وهرطقات لا معنى لها.
دعونا نغير الاتجاه قليلا ، ونفترض، بان العراق بعد خروجه من الفصل السابع اصبح مستقلا وذا سيادة كاملة، وان امريكا تركت العراق وشانه، او لاهله كما كذب علينا باراك اوباما في حملته الانتخابية الاولى. ترى هل ستكفل دولة العراق المستقلة وذات السيادة تامين العيش الكريم والحرية والتقدم الاجتماعي للعراقيين في ظل حكومة بطل التحرير والاستقلال نوري المالكي وعمليته السياسية ونظام المحاصصة الطائفية والعرقية والمليشيات المسلحة؟ ام ان تحقيق ما يصبو اليه الناس لا يحتاج الى وجود دولة مستقلة فحسب، وانما الى بناء دولة وطنية تقوم على اسس حديثة، دولة يسود فيها العدل والقانون، ودستور يكفل حقوق الناس وواجباتهم على اساس المواطنة وليس على اساس الانتماء الطائفي والعرقي؟.
يقول اهل الذكر في هذا المجال، ان الدول لا تبنى بالصدفة ولا بالثروة والغنى ولا بتاريخها او موقعها او غيره. واذا توفر كل ذلك فانه لن يكون كافيا ما لم تكون عملية بناء البلاد بيد اهلها المخلصين، وليس بيد احزاب وقوى وجماعات تنتمي الى دول خارج الحدود وتنفذ اجنداتها على حساب اجندات شعوبها. في حين اثبت بالمقابل الوقائع والتجارب البشرية في هذا الخصوص، بان الدول الوطنية الحديثة لا تبنيها الاحزاب الدينية المدعومة بالميليشيات المسلحة، فمثل هذه الاحزاب والقوى لا يمكنها الا ان تكون طائفية وليس هناك اي امل في تخلي هذه القوى الدينية عن انحيازها الديني والطائفي وحتى العرقي. بل ان هذه الاحزاب لا يمكنها البقاء والاستمرار من دون ادامة صراعات من هذا النوع.
ان جميع النظريات الحديثة المستندة على التجارب والخبرة قد اكدت بان الشروع في بناء مؤسسات الدولة الادارية والامنية على اسس حديثة تحترم الحرية والديمقراطية وتطبق القانون وتحمي الناس وتبني مؤسسات المجتمع المدني وتنشر القيم النبيلة والاخلاق الحميدة وتشيع روح التسامح وتعزز الوحدة الوطنية لا يمكن ان يتحقق الا في ظل الاحزاب والقوى والجماعات والشخصيات العلمانية اليبرالية التي وحدها القادرة على بناء الدولة الديمقراطية على اساس ودولة وسيادة القانون ورفض التمييز بين الناس على اساس ديني او طائفي او عرقي او مناطقي الخ، وهي في ذات الوقت تكفل وتضمن حرية الاديان والمذاهب والعقائد.. وعلى ارض الواقع، فان الذين يسيطرون على الحكومة والبرلمان والمؤسسات الاخرى هم امراء لطوائف دينية ومذهبية ورؤساء لميليشيات مسلحة، تعمل بحرية جراء غياب الدولة المركزية القوية.
اذن الامر لا يتعلق بالخروج من الفصل السابع او العودة اليه، ولا بزيادة الواردات او قلتها، وانما له علاقة بهذه الحكومة التي دمرت البلاد وقسمته ومزقت وحدته الوطنية ونسيجه الاجتماعي وافسحت المجال امام المليشيات المسلحة التي عاثت في الارض فسادا. وما لم يحسم الشعب العراقي امره ويتخلص من هذه الحكومة والمحتل الامريكي معا، ستبقى المعاناة والالام مستمرة. بمعنى اوضح وادق ينبغي الاستمرار في المعركة الدائرة بين الشعب العراقي وقواه واحزابه الوطنية ومقاومته الباسلة وبين المحتل وحكومته وعمليته السياسية. بل ينبغي لهذه المعركة ان تختلف عن الكثير من المعارك الوطنية في البلدان الاخرى، لاسباب لا حصر لها، معركة فاصلة، معركة لا منطقة رمادية فيها، معركة لا مساومة فيها، معركة لا مكان فيها للانتهازين وتجار السياسة.
لا شك بان معركة بهذا الوزن وهذه المواصفات وضد محتل بوزن امريكا وضد احزاب وقوى تابعة لها ستكون معركة طويلة الامد. وتكاليفها باهضة الثمن. لكن النصر فيها اكيد. وبالتالي لندع المعركة تتواصل بين معسكرين لا ثالث لهما. هما المقاومة الوطنية العراقية بكل فصائلها العسكرية والسياسية من جهة، وقوات الاحتلال وعملائها في الحكومة والبرلمان من جهة اخرى. وينبغي على كل العراقيين والعرب الشرفاء تقديم كل اشكال الدعم والاسناد للمقاومة الوطنية العراقية بكل الاشكال. فتحرير العراق وعودته قويا وواعدا وقادرا على لعب دوره العربي والاقليمي والدولي، هو ليس نصرا للعراقيين وحدهم. وانما هو نصر للامة العربية، ولكل شعوب العالم على هذه المعمورة.
عوني القلمجي
8/7/2013