شبكة البصرة
محسن خليل
تشهد بغداد منذ أشهر عدة حركة دبلوماسية نشطة غير معهودة عنوانها الاساسي عودة الدور العربي الى العراق، وفتح سفارات لدول عربية واعادة التمثيل الدبلوماسي بينها وبين حكومة الاحتلال الرابعة برئاسة المالكي.وتوافد الى الان وفود رفيعة المستوى من مصر برئاسة وزير الخارجية أحمد ابو الغيط (5/10)، ومن الامارات برئاسة وزير خارجيتها عبد الله بن زايد آل نهيان مطلع يونيو2008،ومحمد بن زايد آل نهيان ولي عهد ابو ظبي (7/ 10)، وسبقهما الملك عبدالله ملك الاردن بزيارة بغداد في اغسطس الماضي (11/8)،وزيارة فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان في اغسطس أيضا، وتنتظر حكومة المالكي زيارة رئيس وزراء الكويت ناصر محمد الاحمد الصباح، أضافة الى تسمية سفراء جدد لعدد من الدول العربية بينها الاردن والكويت (الفريق المتقاعد علي المؤمن) والبحرين (صلاح المالكي) وسوريا (نواف فارس) وفي الطريق سفراء لمصر والسعودية.. فيما قدم سفير الامارات العربية المتحدة (عبد الله إبراهيم العبد الله) أوراق اعتماده فعلا.
أَنْ يكون عنوان هذه الحركة الدبلوماسية عودة الدور العربي الى العراق، فهو أمر على قدر كبير من الاهمية، وتقتضية المصالح المشتركة للعراق والامة العربية، وتحتمه تفاعلات ما يجري في العراق وانعكاساتها على أوضاع الدول العربية ودول المنطقة.
والقائلون باهمية عودة الدور العربي الى العراق، وإن جاء انتباههم له متأخراً،الا أنهم أنطلقوا من ان هذا الدور رد على الاحتكار الا مريكي والايراني للدور السياسي والعسكري والامني والثقافي في العراق وان أستمرار الغياب العربي عن العراق لم يعد مقبولا أو مبررا
تفسير الحركة الدبلوماسية العربية الاخيرة تجاه العراق بهذه الطريقة فيه كثير من التبسيط وعدم الواقعية، ويعكس أن الدول العربية ما تزال تمارس ذات المنهج الذي مارسته في التعامل مع ما يسمى (الازمة العراقية) أي الاحتلال في ايامها االولى من عام 2003. وهو منهج أكتفى بالتفرج على ما يجري في العراق من جهة وتقديم أطواق نجاة لمآزق الاحتلال الامريكي في اللحظات الحاسمة من جهة اخرى ومن دون أن يكون للدول العربية وجود أو تأثير على الارض.. فالاعتراف الدبلوماسي العربي بالوضع الجديد الذي نشأ عن الغزو الامريكي كان حاضر منذ الاشهر الاولى للأحتلال، وأول مظاهره الجماعية أعتراف جامعة الدول العربية بالاحتلال، وتمكين (مجلس الحكم) المعيَّن من الحاكم المدني (بريمر) من شغل مقعد العراق في الجامعة العربية،وذلك في أنتهاك واضح وصريح لميثاق الجامعة الذي ربط العضوية في الجامعة العربية بالدول العربية المستقلة بينما مجلس الحكم هيئة أنشأها المحتل. ووافقت معظم الدول العربية على أستقبال دبلوماسيين يمثلون الحكومات الاربع المنشأة تحت الاحتلال وأستقبال كبار المسؤولين فيها، ورفضت الدول العربية بالمقابل الاعتراف بالمقاومة العراقية كممثل شرعي للشعب العراقي والتي أنبثقت فور وقوع الاحتلال، وحتى الدول العربية التي أستقبلت شخصيات تنتمي لفصائل في المقاومة، أستقبلتها بهدف التعرف على تفكيرها وثقلها وبرامجها وليس أعترافا بها او دعما لها،مع أن المقاومة العراقية تعاظم شأنها بسرعة وأجهضت عناصر مشروع الاحتلال الامريكي في العراق وحولته الى أكبر كابوس يحاصر ليس حكومة الجمهوريين في واشنطن فحسب وأنما يحاصر الامبراطورية الامريكية برمتها التي باتت تترنح تحت ضربات المقاومة العراقية..
ان الدور العربي في العراق امر حيوي تقرره عوامل انتماء العراق الى أمته العربية وكونه جزء من الوطن العربي وأحد اعمدة امنه القومي الاساسية ولا تقرره اجتهادات في سياسات الدول العربية لكي يقبل بها طرف ويرفضها آخر. وكان ينبغي أن يكون هذا الدور حاضرا منذ لحظة انطلاق الغزو الامريكي للعراق. وأذا كانت سنوات الاحتلال السابقة شهدت غياب الوجود والدور العربي الحقيقي فلا يجب ان يعني ذلك أستمرار غيابه، ومن المهم ان يستانف وبسرعة ويتمكن من الامساك بأمكانية التأثير وصياغة القرار السياسي العراقي الوطني.
وحتى يمكن أن يكون للدور العربي الفاعلية في انقاذ العراق والحفاظ على وحدة أرضه وشعبه وأستقلاله الحقيقي، لابد ان يكون ثمة قواعد ومباديء أساسية نابعة من الرابطة القومية العربية تضبط هذا الدور. ومن الخطأ الخلط بين دور يقوم على مباديء وقواعد تحمي ثوابت العراق الوطنية وأنتمائه القومي وبين دور هاجسه السمسرة والفوز بقدر من (أسلاب) الفريسة العراقية وعدم ترك أمريكا وأيران تلتهمانها وحدهما.. فثمة فرق بين دورعربي ينطلق من مبادي العمل العربي المشترك كما تقررها اتفاقية الدفاع العربي المشترك وميثاق الجامعة العربية وبين دور يراد له ان يكون رافعة للأحتلال من أزمته الخانقة، ونافذة لرجال الاعمال (الحكوميين) والقطاع الخاص لمقايضة مباديء العمل العربي المشترك ببضعة عقود وفرص كسب في ظروف شاذة وغير طبيعية.. لذلك لا بد من تقرير على أي قاعدة يجب أن يعود الدور العربي؟؟ هل على قاعدة دعم مشروع الاحتلال والحكومات التي أنشأها؟؟ هل على أساس مباركة نظام المحاصصة الطائفية والعرقية الذي يهدد بتقسيم العراق؟؟ هل على أساس الاعتراف بالفدرالية الرديف لمشروع تفتيت العراق وتقسيمه؟؟ هل على أساس الاعتراف بالدستور الذي وضعه المحتل وشرعن من خلاله الاوضاع الشاذة التي أوجدها مثل المحاصصة والفدرالية والغاء هوية العراق العربية؟؟
أذا كان الدور العربي سيتعامل مع الوضع في العراق على أساس ماهو قائم فهو أذن امتداد لمشروع الاحتلال ومحاولة عربية لفك الاختناق عنه.. أما اذا أريد الحفاظ على وحدة أرض العراق وشعبه فعلى الدور العربي أن يبرهن على قدرته على حماية الثوابت الوطنية العراقية بتغيير ما جاء به المحتل وأدواته من آليات أدت الى تفكيك بنية الدولة وتفتيت بنية المجتمع وفي مقدمتها المحاصصة والفدرالية والغاء هوية العراق العربية؟؟
اذ كيف يستقيم الدور العربي في حماية العراق أذا كان يتعامل مع كيان انفصالي في شمال العراق لا يعترف بالحكومة الاتحادية وله جيشه الخاص ودستوره الذي يعلو على دستور (الاتحاد) ويقيم علاقات مع دول العالم بمعزل عن المركز في بغداد؟؟ ومالذي سينقذه العرب أذا كانوا سيتعاملون مع المحاصصة الطائفية ودستور الفدراليات والغاء عروبة ال 85 بالمئة من العراقيين؟؟ أي دور ووجود عربي في العراق يكون محكوما بهذه القواعد سيكون عونا في تمرير مشاريع تفتيت العراق وتخفيف ضغوط المقاومة عليها وعلى المحتل وعلى حكومة المنطقة الخضراء ولا يليق بالدول العربية أن تتورط فيه وتكون في صف أعداء العراق؟؟
هناك من يقول ان عودة الدور العربي في هذا التوقيت جاء نتيجة ضغوط أمريكية مارستها الادارة الامريكية بشدة منذ بداية العام 2008 وقامت رايس خلال الاشهر الاولى من عام 2008 باكثر من ثلاث زيارات للمنطقة أجتمعت خلالها مع مسؤولين في الدول الخليجية ودول أخرى وطلبت منهم بالحاح اتخاذ اجراءآت سريعة لاعادة سفراء دولهم الى بغداد..
ليس المهم ما يقال، لكن المهم ما سوف يتم عمله.. الدور العربي تجاه العراق المحتل له سابقة لا يجب ان تغيب عن الذهن عند الحديث عن هذا الدور اليوم.. ومفتاح الدور العربي هو هل سيكون عونا للأحتلال وحكوماته أم عونا لشعب العراق وممثله الشرعي المقاومة الوطنية؟؟
وكنموذج على الدور العربي وخطورته عندما لا تضبطه بوصلة المصالح العربية العليا الحقيقية ما حصل في 2003 عشية الاحتلال وأثنائه... يومها اتخذ قرارا من القمة العربية في شرم الشيخ قبل الغزو بأسابيع، وأتخذ قرار آخر من وزراء خارجية الدول العربية أثناء الاسبوع الاول من الغزو، كلا القراران رفضا الغزو وأداناه وقررا دعوة مجلس الامن للتدخل ووقف العدوان على العراق والذهاب الى الجمعية العامة اذا فشل مجلس الامن في أتخاذ القرار المناسب لوقف الغزو. لكن هذه القرارات والمواقف كانت من قبيل تبرئة الذمة، ولم تقترن بأي تحرك عملي،وكانت الدول العربية تتفرج على سير الغزو والعدوان وبعضها شاركت فيه عسكريا الى أن دخلت قواته الى بغداد، حيث سارعت معظم الدول العربية الى أسدال ستار على الغزو والعدوان وبدات تتعامل مع الوضع الجديد وكأنه حالة طبيعة ليس فيها أنتهاك للقانون الدولي وميثاق الجامعة العربية وقرارات قمة شرم الشيخ. وبعد الاحتلال مباشرة كان هَمْ معظم مندوبي الدول العربية في أجتماعهم الذي عقدوه في 14/أبريل 2003 هو كيف يكون للدول العربية حصة في اعادة اعمار العراق وتقديم (مساعدات انسانية للشعب العراقي) وكأنه تعرض لهزة أرضية وليس لعدوان وأحتلال،ثم جاءت الخطوة التالية وهي اعتراف الدول العربية رسميا بالاحتلال وممثليه من (مجلس الحكم).
توقيت العودة العربية
يأتي توقيت التحرك الدبلوماسي لعودة الدور العربي للعراق في ظروف معروفة خلاصتها تفاقم الازمة البنيوية لمشروع الاحتلال وبلوغها الذروة،على المستوى العسكري والسياسي، على مستوى أدوات الاحتلال المحلية (حكومات المنطقة الخضراء)، وعلى مستوى تعاظم شأن المقاومة العراقية والافغانية،وتفكك نظام القطبية الاحادية وانهيار هيبة الامبراطورية الامريكية، وأنفجار الازمة المالية الامريكية والعالمية وما تمثله من محددات تتحكم بأرادة صانع القرار في البيت الابيض.. بأختصار جاء توقيت عودة الدور العربي في وقت تواجه فيه واشنطن وحكوماتها في المنطقة الخضراء أختلال أستراتيجي وضعف عسكري كبير وتراجع سياسي وتدهور مالي،وتشكل هذه البيئة (عراقيا واقليميا ودوليا) فرصة بالفعل لأنقاذ العراق من براثن الاحتلالين الامريكي والايراني والحفاظ على وحدة أراضي العراق وشعبه، وذلك من خلال قيام الدول العربية ومؤسسة الجامعة العربية، بربط عودة الدور العربي الى العراق بالغاء ما جاء به المحتل من انظمة محاصصة وفدراليات والغاء هوية العراق العربية، واعادة بناء الدولة ومؤسساتها على أسس علمية وطنية كما هو الحال في دول العالم من دون تمييز بين العراقيين على أي أساس غير اساس المواطنة، ويتقدم ذلك الاعتراف بالمقاومة الوطنية العراقية والقوى المناهضة للأحتلال ممثلا شرعيا لشعب العراق..
حين تكون عودة الدور العربي الى العراق في هذه البيئة التي تضيَّق الخناق على صانع القرار الامريكي، وفقا لشروط المحتل وحكوماته فأنها تخدم المحتل ولا تخدم العراق.. وعلى العرب ان لا يفوتوا فرصة أنقاذ العراق بأنهاء الاحتلال والوقوف مع المقاومة، فأن استقر الاحتلال في العراق مع الشراكة الايرانية، فسوف تكون الدول العربية دون أستثناء الهدف التالي للمشروع المشترك الامريكي الايراني، ولا ينخدعن أحد بضجيج التهديدات المتبادلة بين ايران وامريكا والكيان الصهيوني، فالعبرة بالسياسات العملية وليس بالتصريحات؟؟؟
أن قادة الاحتلال العسكريون يعترفون صراحة بأستحالة تحقيق النصر العسكري في العراق، رايس نفسها في كلمتها لتكريم بترايوس والسفير الأمريكي لدى بغداد رايان كروكر في مقر وزارة الخارجية الأمريكية بواشنطن، يوم الاثنين 6-10-2008 قالت أمام الجميع: (أن طريق الولايات المتحدة في العراق كان أشق وأطول وأصعب مما تخيلت شخصياً).ومثلما حذرت من بعض التقدم الذي تحقق مؤخراً، فأنها أبدت اعترافاً أولياً بالهزيمة حينما قالت: (أن النجاح في العراق ليس أمراً مؤكداً).
معدلات رضا الأمريكيين عن الأوضاع في بلادهم هبطت إلى مستوى قياسي؛ حيث وصلت إلى 9%، وهو أدنى نسبة يصل إليها معدل رضا الأمريكيين خلال ثلاثين عامًا ماضية.
أوباما في مناظرته الثانية مع ماكين قال أن كلفة الحرب على العراق تبلغ عشر مليارات دولار شهريا وبلغت حتى الان 700 مليار ويمكن ان تصل الى ألف مليار (أي ترليون).. المقاومة العراقية والافغانية وما فجرته من مشاكل عسكرية وفنية وانهيار في طاقة التحمل لدى الجيش الامريكي وأرتفاع عدد اصابات العوق الجسمي والنفسي بين جنوده،أفقد الامبراطورية الامريكية قدرتها على الفعل في مناطق عديدة من العالم، وما حصل في جورجيا نموذج لذلك.. الامبراطورية في تراجع ومشروع الاحتلال مصيره الفشل والهزيمة، وحكومة الاحتلال الرابعة مصيرها مرهون بمصير الاحتلال،وأيران ليست اقدر من امريكا على أحتلال العراق. وعلى الدور العربي أن يكون لحساب العراق والعرب وليس لحساب أمريكا أو رجال الاعمال العرب (الحكوميين والقطاع الخاص)...!!!!
صحيفة الموقف العربي
القاهرة 14/10/21008