شبكة البصرة
اسماعيل ابو البندورة
حتى عندما رحل عن الدنيا بعيداً عن وطنه العراق المحتل ومشرداً عن بلاده التي احبها واخلص لها حتى آخر لحظة في حياته، اوصى المفكر القومي سعدون حمادي بان ترسم على ضريحه خارطة الوطن العربي بحدوده الخارجية وان يكتب على شاهدة القبر:
أيها المواطنون: عليكم بوطنكم العربي، وحدّوه في دولة قومية تقدمية، فليس غير الوحدة العربية ما يحقق لكم الامن والنهضة والتقدم، وهي لا بد متحققة باذن الله وجهادكم.
هكذا كان المفكر القومي سعدون حمادي في حياته، وهكذا مضى وهو ينادي بالوحدة العربية بارادة صلبة لا تنثني وقدرة معرفية هائلة على الاستبصار والاستشراف عزّ مثيلها، فهو من بين القلائل الذين لم يراودهم اليأس والاحباط ولم تثنه تجليات الانحطاط العربي عن الترويج لفكره الوحدوي وقناعاته القومية، ذلك انه كان يرى دائماً ما لا نراه من خلال قناعاته العلمية والتاريخية ان الوحدة آتية وان ما يحول بينها وبين التحقق هو هذه المؤثرات الداخلية والخارجية التي تتكالب عليها لابعادها عن مجال التداول العربي والاقتناع بالواقع القطري الراهن على انه نهاية مطاف ولا تبديل او تغيير له في الحاضر والمستقبل.
ويمكن القول بان الدكتور سعدون حمادي كان مفكر الوحدة بامتياز واحد ابرز رموزها حيث قصر معظم جهده وجهاده الفكري عليها وجعلها قضية بؤرية للنهضة العربية مع ادراكه لاهمية العناصر الاخرى للنهضة وبناء المشروع الحضاري العربي. وبقدر ما كان داعية للوحدة كان ناقداً ومراجعاً لكل اطروحاتها ذلك انه تميز بفكر نقدي وعلمي لا يخضع للموقف السياسي والايديولوجيا الشعاراتية بقدر ما كان يؤسس ويؤصل لفكرة جوهرية في الحياة العربية ولفكر قومي يراه خياراً معقولاً ومنطقياً لتجاوز حالة الانحطاط العربي وفيه دعوة ورسالة للانبعاث والتقدم والتجدد، وفيه ممكنات الاستنهاض والنهضة.
كان الدكتور سعدون حمادي يدرك اهمية الوحدة باعتبارها خياراً استراتيجياً للعرب وهدفاً من اهداف نهضتهم وتقدمهم ووسيلة لارتقاء وطنهم ولذلك جعلها محور تفكيره واسهاماته الفكرية وكان في هذا المجال مثقفاً عضوياً ملتزما بقضية ولم يكن مفكراً محترفاً تستهويه الافكار بذاتها بغض النظر عن امكانات تجسدها وتحققها في الواقع المعطى.
وكان التزامه الفكري يدفعه في كل الاوقات ان يقدم مداخلات فكرية نوعية تسهم في التجديد واعادة الحديث عن قضية العرب الاولى وهي الوحدة وعثراتها وازماتها والعوامل التي تحول دون تحققها او تقف في طريق تحققها. واذا كان في مرحلة معينة من مراحل حياته قد حاول ان يستوعب حالة الانحطاط في الواقع العربي وان يدخلها في مجال نظره وابحاثه الا انه لم يتراجع امام اية لحظة نكوص او تراجع فيقيناته ثابتة وايمانه مستمر وقناعاته تتجدد وتبدد الغيوم والظلال التي تغطي احياناً عقل الامة وتجعلها في ضلال مبين او تنأى بها عن تاريخها ومسؤولياتها، فكانت كتاباته واطروحاته تتضمن دعوة للامة لكي تعيد قراءة حاضرها بعيون ورؤى قومية مستقبلية ترى الافكار الكبرى الحافزة ولا ترى الفكر اليومي الهزيل والخاضع لاكراهات اللحظة، وكان في كل مداخلاته يقدم جديداً ويضيف الى تراث الفكر القومي ابداعات فكرية نوعية ويجيب على اسئلة الواقع العربي بغية اخراجه من الاختناق والانسداد.
وكانت استشعاراته واستبصاراته تدرك ما يدور في عقول العرب من تساؤلات فيقدم اجوبة علمية منطقية تكون بمثابة رافعة لاعادة التوازن العقلي والنفسي للانسان العربي وتمده بالامل وتبعث فيه الارادة، فالارادة وبعثها كانت احدى اهم مرتكزات فكر الدكتور سعدون حمادي وكان ايمانه عميقاً بالارادة القومية وقدرة الانسان العربي على الانطلاق وكسر القيود وبناء الحياة ولذلك عوّل على هذه الارادة كثيراً لا بل جعلها مفتاحاً رئيساً للتغيير.
كتابات الدكتور سعدون حمادي وأفكاره لا بل مشروعه الفكري في موضعة فكرة الوحدة في العقل العربي تحتاج الى دراسات هادئة ومفصلة (وخصوصاً ان اعماله الكاملة قد صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية بداية هذا العام 2008)، وما اقوله هنا هو عبارة عن هوامش عامة ترنو الى دراسة هذا المفكر وقراءة فكره الوحدوي واشاعته في هذه المرحلة العربية الراهنة التي اصبحنا نرى فيها نذر معاداة الوحدة او التقليل من اهميتها او اعتبارها من اضغاث الاحلام.
ان قراءة فكر الدكتور حمادي تجيب على هذه المسائل وتعيد الى العقل قضية من اهم قضايا الوجود العربي ومهمة الدكتور حمادي كانت ولا تزال بان تبقى قضية الوحدة العربية امام الخيال وامام العقل وفي كل لحظة نهضة، لان ما نراه من تراجعات في واقعنا الراهن لم يكن الا تجلياً من تجليات معاداة الوحدة او التفريط بها باعتبارها خياراً قومياً رئيسياً يضع الامة على خارطة العالم ويؤكد حضورها ووجودها ومكانتها التاريخية.
نترحم على الدكتور حمادي وندعو ابناء الامة الى قراءته وتجسيد افكاره وهو اعز ما يتمناه مفكراً ومناضلاً.
جريدة الوحدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق