د. عمر الكبيسي
Friday 09-05 -2008
بالأمس القريب رحل رئيس الجمهورية الأسبق عبدالرحمن عارف، هجر ومات ودفن في المهجر بمقابر العراقيين في عمان، وقبله رحلت الشاعرة الرائدة نازك الملائكة ودفنت في القاهرة، واليوم الدكتور خالد ناجي، ورواد غيرهم كثر من الضباط الأحرار والعلماء واساتذة الجامعات والطيارين والمهندسين وخطباء المساجد ومفتي الديار، يتساقطون بعيدا عن العراق واحسرتاه! يموتون غرباء.. ويدفنون غرباء بعد ان قدموا للعراق أعمارهم وأفكارهم وسواعدهم، يموتون واأسفاه!وفي صدورهم حسرة، وتحت جفونهم دمعة لوطن تفانوا في بنائه حجرا حجرا متحدين موحدين، ويتساقطون اليوم فرادى نجما خلف آخر، واضيعتاه للعراق بيد المحتلين والعملاء! دمروا مدنه، وقتلوا نخبه، وهجروا أهله، وسرقوا خيراته، وأسلموا قياده للطامعين الأجانب. وهذه قصة علم من أعلامه، كان من أكبر وأوائل جراحيه وأقدم اساتذة كلية الطب بجامعة بغداد. كنا مجموعة من الاطباء المهجرين الموجودين في عمان نتابع عن كثب حالة أستاذنا خالد ناجي، نزوره تارة في سكنه وتارة في المستشفى، وكانت زيارات ترويحية أكثر منها طبية، فقد كنا ندرك طبيعة مرضه وان أستاذنا رحمه الله يعيش أيامه الأخيرة، وكنا من دفعات طلابهِ على فتراتٍ متباعدة ودوراتٍ واختصاصات مختلفة، وبأعمار متباينة، وكنا في كل مرةٍ حتى في يومه الأخير نزوره فيها نستذكر بعد الزيارة لمحات وطرائف ووقائع واحداثا تتعلق بمسيرة هذه الشخصية الطبية والابداعية المتميزة ذات الطعم الخاص، والنكهة المتميزة، والطبيعة المتفردة والمسيرة الطويلة المثيرة للجدل والمملوءة بالنشاط والحيوية والمفاجآت والإنجازات والانتكاسات والإحباطات. ومع اننا كنا نتفاوت في تقييم هذا الحدث او ذاك في مسيرته لكننا كنا جميعا نتفق في ان خالد ناجي ترك في شخصية كل طالب درسه وكل طبيب تدرب على يديه، وكل زميل رافقه بالعمل، وكل من أصغى لمحاضرته او بحثه، حكمة لا تنسى، او نصيحة لا تثمن، او مهارةً وخبرة ظل له بسببها مَدينا.لقد كان الاستاذ الراحل قد امضى اكثر من خمسة عقود بالعمل جرّاحا ومدرسا وباحثا ومحاضرا ومشرفا، فتأمل كم هي هذه الأعداد الهائلة من الأطباء والمتدربين والدارسين والباحثين الذين ترك خالد ناجي لمساته فيهم؟ ناهيك عن الأعداد الهائلة من المرضى والجرحى والمراجعين الذين من الله بسببه عليهم بالشفاء وتخفيف المعاناة، ولا أعتقد ان طبيباً عراقياً آخر ينافسه في متابعة هذا القدْر الكبير من المرضى مذ كان خالد ناجي واحدا من الأطباء الذين يُعدون بعدد الأصابع ويشار إليه بالبنان في العراق ولعقود عديدة.يكاد يكون الفقيد رحمه الله الوحيد من أقرانه من الذين سنحت لهم الفرصة للدراسة والتدريب خارج العراق ولم يفعل، وقد يكون سبب ذلك انه نال فرصاً ثمينة للتدريب وملازمة العديد من اساتذة الكلية الطبية الأجانب من فحول الجراحة المشهورين الذين تم استقدامهم للتدريس من المملكة المتحدة والذين وَجدوا في نشاط خالد ناجي وتشبثه بالعمل معهم فرصة أفضل مما سيحصل عليه من اي زمالة او تدريب خارج العراق حيث كان المستشفى الملكي (المجيدية) التعليمي لكلية الطب يستقطب أعداداً هائلة من الحالات الجراحية التي تشكل اكبر مادة دسمة للعمل والتدريب والخبرة قلما يحظى بها اي طبيب حديث التخرج في ذلك الزمان، وبفترة وجيزة نال الراحل درجة الماجستير في الجراحة عام 1947 وأصبح استاذاً مساعداً في كلية الطب عام 1948وهو لم يبلغ بعد من العمر الـ 25 عاما، وهو من مواليد بغداد - رأس القرية عام .1923 وهكذا صير خالد ناجي من تمسكه بالبقاء في العراق وعزوفه عن السفر للدراسة خارج العراق فعلا عده تميزاً عن غيره وزاده التصاقاً وتمسكاً بالعراق وأضفى على شخصيته طابعاً من الفخر والاعتزاز بالمدرسة الطبية العراقية التي ظل يفخر بأنه تلميذها، وكان يحسن استقبال الوفود الطبية والمحاضرين الذين يفدون الى العراق من الخارج للتدريس والتطبيب ويجيد اسلوب مناقشتهم وافحامهم ويعرض لهم الحالات النادرة والوقعات السريرية الحرجة وطرق معالجته لها بكبرياء وفخر ويعتبر ذلك فخراً لوطنه، ما يبهر عقولهم لكثرة ما يحتفظ به من توثيقات ونماذج باثولوجية ومصورات لهذه الحالات ويحتفظ بها في غرفة تدريسه الزاهرة في الردهة التي امضى فيها اكثر من خمسة عقود حين دخلها مقيماً وتركها أستاذا عند الانتقال الى بناية مدينة الطب الحديثة حيث فارقها بمرارة.واهتم خالد ناجي بالموروث الطبي العراقي وتفرغ لفترةٍ غير قصيرة بعد تقاعده الوظيفي المفروض عليه الذي شكل فترة إحباط له استغلها للغوص في القراءة والبحث في أتون الطب العراقي والعربي القديم ونشر وألقى أروع البحوث والمحاضرات في المؤتمرات الطبية والعلمية والنشرات العربية، ونشط في جمعية تاريخ الطب وبيت الحكمة ودار الرواد نشاطاً مكثفاً ملأ الفراغ الذي ما اعتاد عليه خلال هذه الفترة وهكذا مرةً أخرى يوظف خالد ناجي فترة تقاعده لتكون مرحلة إضافاتٍ وإبداعاتٍ متميزة من إنجازاته. وهو عضو في اتحاد المؤرخين العرب وجمعية الرواد، ومرحلة تدريس لطلبة الدراسات العليا في معهد التراث التاريخي وأسهم في تطوير كليات الطب العراقية حين كلف برئاسة اللجنة المشرفة عام 1997 لسنوات عديدة.نال الراحل درجة الأستاذية عام 1966وابتكر العديد من الطرق العلاجية للحروق والأكياس المائية وسقوط الشرج وسرطان الثدي وزرع الغدة الدرقية اللسانية بالبطن وزار العديد من المراكز الطبية وحاضر فيها ونال العديد من الجوائز والشهادات الفخرية، وهو شديد الفخر بأصالة علمه وعراقية خبرته، عاش ومات ولم يعمل كجراح او طبيب ولم يندرج كطالب او متعلم في أي مستشفى او مؤسسة تعليمية خارج العراق ومات وهو فخور بذلك ويعتبرها دليل أصالةٍ وإبداع وثيق الارتباط بالجذر والتربة.لخالد ناجي المنحدر من عائلةٍ فلاحية ترجع في جذورها لعشيرة الزبيد في ديالى ومن مواليد وسكنة رأس القرية المنصفة لشارع الرشيد ببغداد القديمة ولع خاص بالموروث البغدادي من حرفٍ وعادات ومأكل ومشرب وشعرٍ وأدب ومجالس ودواوين بفعل البيئة التي نشأ فيها ،في حين ساهم بزوغه الاجتماعي والمهني فيما بعد الأربعينيات واختلاطه بطبقات المجتمع البغدادي الراقية وملازمته لفترةٍ طويلة للأطباء الانجليز وزياراته المتعددة لخارج العراق واختلاطه بالمجتمع البريطاني خارج وداخل العراق إضافة للهالة التي كانت طبقة الأطباء تحظى بها اجتماعياً في تلك الفترة وملازمته لأخيه الاكبر الدكتور اسماعيل ناجي، كل هذه العوامل مجتمعة انعكست على شخصية الشاب الطموح ليعيش زهو حياته الخاصة التي يعتبرها خالد ناجي أسعد أيام عمره بالسلوك والعادات فتجده من رواد نادي العلوية والجمعية البغدادية وهواة لعبة الجولف ورياضة السباحة وعاشقي الزهور والمتأنقين بوردة الجوري والجاردينيا اللتين لم تفارقا صدره حتى وهو يرقد على سرير المرض المتقدم في آخر أيامه. ويتلذذ خالد ناجي (بالكيك) التقليدي الانجليزي المطعم بالزبيب دة الروا(English Cake) ويعشق ثريد البامية التي اشتهرت بطبخها شقيقته «سميعة« التي قضت عمرها في رعايته والتفرغ لخدمته حتى وفاتها في التسعينيات، وتعبيراً عن هذا النمط من الازدواجية بين مرحلتي الطفولة والنبوغ، أذكر جيدا كيف كان الدكتور خالد رحمه الله يحرص على تقديم اكلاته لضيوفه، وهم عادة من طلابه المعجبين به كل ظهيرةِ جُمَعة بتقليدٍ انجليزي على المائدة وبشوكاتٍ ومعالق وسكاكين مصنوعة من (الاستيل بمصانع شيفيلد) المنقوش عليها اسمه التي ظل يحرص على إطعامنا بها منذ ان كنا طلاباً نتدرب في ردهته في السنة الاخيرة عام 1967 عندما استعملتها لأول مرة ولغاية عام 2005 بعد الاحتلال عندما تركت بغداد بنفس الفترة التي تركها رحمه الله.يعشق خالد ناجي المرأة ويهوى الجمال ويعتقد ان الجمال اكبر نعمة يمن الله بها على المرأة، تشكل الطالبة الجميلة ضمن المجموعة التي يدربها مصدر الايحاء لإظهار قدراته وإبداعاته، ومع انه موضع جذب وإعجاب لكثير من النساء، ظل خالد ناجي عفيفاً نظيفاً في حبه وتقديره للمرأة. لم يكتب الله له نصيباً كبيرًا منها في حياته إذ عندما لم يوفق في زواجه الأول المبكر والقصير (الذي رزقه الله من خلاله ابنه الوحيد (شعلان) المغترب حالياً في امريكا والمتجه الان وانا اكتب هذه السطور للمشاركة بتشييع جثمان والده الى عمان ولتسميته شعلان قصة معروفة تفصح عن عربيته البدوية وتمسكه بالتقاليد العربية) عزف خالد عن الزواج لخمسة عقود من الزمن ليقترن عام 2002 بسيدة فاضلة أحبته وتعلقت به لسنين عديدة، بعد ان تقدم في العمر والمرض فخدمته في كبره ومرضه خدمة رائعة الى آخر لحظةٍ في حياته.. جزى الله (السيدة هدى) لوفائها له خيرا.لخالد ناجي ولع كبير في التدريس والتعليم وافضل طريقةٍ للاستفادة منه هو ان تبدي قدراً كبيراً من الصبر والتحمل ازاء أسلوب الترغيب والترهيب الذي يمارسه ببراعة، فبين ان تراه غاضباً جاحظ العينين متشنج القوام معاتباً حاد النبرة مستنكرا وبين ان تراه ضاحكاً مبتهجاً ومنطلقاً فاصل زمني لا يتعدى دقائق معدودة. يحسب له ولأخيه المرحوم د. اسماعيل ناجي تجربة أول عيادةٍ شعبية بأجورٍ زهيدة وإصدار مجلتهما «العيادة الشعبية« في الخمسينيات التي كان لها رواج شعبي كبير في حينها. فارقنا خالد ناجي بعد رحلةٍ غير قصيرة مع المرض في بغداد وشاهد أيام احتلال بغداد بمرارة، كان لا يصدق ما ترى عيناه من سلوك الامريكان وتعاملهم مع الناس في الشارع ومداهماتهم البشعة للمنازل وقسوتهم في الاعتداءات، وكان يأسى لحال المستشفيات والكليات والمكتبات وهي تسرق وتنهب وتحرق ويبكي لما آلت اليه أحوال الأطباء والمؤسسات الطبية والصحية بعد الاحتلال وهو الذي أمضى كل عمره يرعاها وترعاه، وتعرض وهو في داره لاعتداءات وسرقت داره وسيارته وظل متشبثاً بالبقاء حتى ساء وضعه الصحي ونقل الى عمان وعولج جراحيا وعاد ثانية الى بغداد، ولكن الأوضاع ما عادت تثير في نفسه غير الحزن والأسى وانعكس تأثير هذه الأوضاع على نفسيته فلم تجد زوجته حلاً غير العودة به الى عمان ثانية ليقضي ما تبقى فيها من عمره بمرارة وقسوة. كانت الدموع لا تودع جفنيه وفي كل مرةٍ كنت أزوره فيها وهو يتابع بعض نشاطاتي الاعلامية حول وضع العراق كان يقول: «احذر من السياسة والسياسيين.. متى نرجع الى بغداد يا عمر؟ ويجهش بالبكاء، أريد أن أدفن في بغداد في مقبرتنا جنب قبر أخي د. اسماعيل«. رحم الله المعلم والطبيب والجراح والأستاذ د. خالد ناجي وألهم ابنه شعلان وذويه الصبر والسلوان، وأكرم الله مثواه ليلحق بموكب الكفاءات المهاجرة التي فارقت الحياة بعد ان اكتوت بفراق العراق أو تلك التي اختارت البقاء في العراق صامدةً ، فقتلتها شراذم الشقاق والنفاق، وسعيد الحظ من عثر على جثمانه على مزبلة، أو مشرحة، ليجد قبرا يدفن فيه بمعرفة ذويه مقتولا او محروقا أو على سريره مهموما، ولك الله يا عراق.