شبكة البصرة
بقلم الدكتور عبد الواحد الجصاني
أولا : حقائق أساسية
1 - عملت ماكنة الإعلام الأمريكي على تصوير ترشيح ثم فوز باراك اوباما بمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية على انه تعبير عن حيوية الديمقراطية الأمريكية ودليل على إحترام الحقوق المدنية للمواطنين الأمريكان، وان أميركا تصنع لنفسها هوية جديدة يصوغها جيل فائق الذكاء والعلم والمعرفة بغض النظر عن لونهم وعرقهم واصولهم. وشارك كثير من المثقفين العرب في الترويج لهذا المفهوم وهللوا له.
2 - الحقيقة هي غير ذلك تماما، فأوباما لا يختلف عن بقية الرؤساء الأمريكيين بغير لون البشرة، وهو لا يقارن بنيلسون مانديلا. وحزب أوباما، الحزب الديمقراطي الأمريكي، لا يقارن بحزب الإتحاد الأفريقي. إن إنتخاب رئيس أسود لن يأتي بتغييرات تذكر على سياسات أمريكا. التغييرات الهامة التي ستحصل خلال ولايته ليست طوعية بل فرضت على أمريكا، مثل البدء بالإنسحاب من العراق لتجنب الهزيمة الكبرى على يد المقاومة العراقية، أو إدخال إصلاحات الى الإقتصاد الأمريكي بعد الأزمة المالية الكبرى، او إغلاق سجن غوانتانامو بعد ان أدانه العالم كله.
3 – الولايات المتحدة الأمريكية تحكمها ما تسمى ب (المؤسسة). هذه المؤسسة تمثل مصالح مائة عائلة تقريبا من الإنكلوسكسون البروتستانت واليهود المهيمنة على كارتل الصناعة وسوق المال في أمريكا وعلى الشركات العابرة للقارات (اسرة روكفلر، أسرة مورغان، أسرة كارنيجي الخ...). وتدعم هذه المؤسسة منظومة سياسية وإعلامية وجامعات ومراكز بحوث ومحافل سرية كالماسونية. السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة يتداول عليها، منذ أوائل القرن الماضي، حزبان فقط هما الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري وهما الواجهة السياسية لهذه المؤسسة المتحالفة مع الصهيونية العالمية.
4 - أما لماذا قررت (المؤسسة) الأمريكية الإتيان بأسود على رأس السلطة التنفيذية خلافا لمبدأها المتمثل بهيمنة ما يسمونهم إختصارا بالواسب أي البيض من الأنكلوسكسون البروتستانت، فالأسباب عديدة من بينها الرغبة في تحسين صورة أمريكا أمام العالم والحصول على دعم الفئات الشعبية الأمريكية للنظام السياسي الأمريكي، وهناك أسباب سياسية وإعلامية أخرى، لكن السبب الجوهري، الذي لا يجري تداوله في الإعلام، هو سعي (المؤسسة) لتدجين ودمج النخب من الأقليات غير البيضاء في هذين الحزبين، وهو سعي جرى التركيز عليه منذ العقد الماضي بمنح كولن باول ثم كوندوليزا رايس حقيبة وزارة الخارجية.
5 - درست (المؤسسة) ما حصل لنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا عندما وجد النظام نفسه فجأة أقلية بيضاء وسط بحر متلاطم من السود المنتظمين سياسيا في (حزب المؤتمر الأفريقي)، مما إضطر نظام الفصل العنصري الى التخلي للسود السلطة، وقررت أن تستبق مثل هذا السيناريو من خلال دمج نخب الأقليات في النظام السياسي الأمريكي الحالي.
6 – قد يقول قائل إن البيض يشكلون اليوم 68% من مجموع سكان الولايات المتحدة، فلماذا الخوف من التحول الى أقلية. والجواب يأتي من مراجعة إحصائيات التركيبة السكانية الأمريكية وآفاقها المستقبلية والتي تؤشر بشكل واضح التراجع المتسارع لإعداد البيض حيث أن نسبة الزيادة السكانية بينهم أصبحت سالبة، وسيصبحون أقلية في عام 2042 وستكون نسبتهم اقل من 40% من سكان أمريكا قبل نهاية هذا القرن، بينما ستشكل الأعراق الأخرى (اللاتين والسود والآسيويين والهنود الحمر) الأغلبية العددية.
إن الضمور الديموغرافي للعتصر الأبيض هو ظاهرة لها اسباب إجتماعية وثقافية وإقتصادية وفكرية وسياسية، ولها إتعكاسات كبيرة على واقع ومستقبل العلاقات الدولية، ومن المناسب القاء نظرة عليها في السطور القادمة.
ثانيا : ظاهرة الضمور الديمغرافي للعنصر الأبيض
1 - الولايات المتحدة هي النموذج الذي تجسدت فيه كل حسنات ومساويء الحضارة الغربية، التي دشنت عصرها مع بداية عصر الإستكشافات الجغرافية في القرن الخامس عشر الميلادي.وأول هذه المساويء هي أن بذرة فناء هذه الحضارة ولدت ونمت مع نموها، وستقود الى إنكماش وشيوخة وتواري عنصرها البشري (العنصر الأبيض). الحضارة الغربية بنيت على عقيدة سيادة الرجل الأبيض وركزت على إطلاق الحريات والمتع الفردية من جانب وعلى إعلاء القيم والمعايير المادية على ما سواها من جانب آخر، وهذا أدى الى ضعف الروابط الأسرية وضعف الرغبة في الزواج وفي الإنجاب وبالنتيجة أصبح النمو الديموغرافي للعنصر البيض سالبا مقابل الأعراق الأخرى التي تنمو بمعدل 3% سنويا.
وتظهر إحصائيات مكتب الإحصاء الفيدرالي الأمريكي الآتي :
في عام 1990، كان سكان الولايات المتحدة 250 مليون نسمه، نسبة البيض منهم 78% والباقي يتوزعون على الأقليات العرقية الآتية :، السود 11.8 %، اللاتين 9 % الآسيويين 2.8 %، الهنود الحمر 0.7 %
وفي عام 2000 أصبحت إنخفضت نسبة البيض الى 69% بينما زادت نسبة اللاتين الى 12.5%، والسود الى 12.1%، ولآسيويين الى 3.7%، وبقيت نسبة الهنود الحمر على حالها (0.75).
وفي عام 2042 ستنزل نسبة البيض الى 49.9% من السكان ليصبحوا أقلية
أما في عام 2050 فمن المتوقع أن يكون عدد سكان أمريكا 439 مليون نسمة ستكون نسبة البيض منهم 46 %، وسيمثل اللاتين 30% والسود 15 % والآسيويين 8 % والهنود الحمر 1 %.
أما في نهاية القرن الحالي فسيكون عدد البيض 40% فقط من سكان الولايات المتحدة.
وإضافة الى الضمور الديموغرافي سيعاني البيض من الشيخوخة، وستكون نسبة من تزيد أعمارهم على 65 سنة من البيض 25% أي أن نسبة القوى غير المنتجة بينهم هي الأعلى مقارنة ببقية الأعراق.
(أنظر إحصائيات مكتب الإحصاء الفيدرالي الأمريكي على موقعه على الإنترنت
(www.census.gov
2– إن الضمور الديموغرافي للبيض في أمريكا يحصل في أوربا الغربية أيضا، ولكن بشكل أقل حدة، بسبب قلة نسبة المواطنين من أعراق أخرى، وبسبب القيود الصارمة التي تفرض على الهجرة القادمة من الخارج. وإستفادت أوربا الغربية مؤخرا من الهجرة الداخلية من بلدان أوربا الشرقية الأعضاء في الإتحاد الأوربي لضخ دماء جديدة في مجتمعاتها، ولكن المشكلة تبقى قائمة على المدى البعيد.
3 - لقد بدأت آثار العامل الديموغرافي في إنحدار الدور الكوني للحضارة الغربية بالظهور منذ أواسط القرن الماضي وتمثلت في إنسحاب الرجل الأبيض من كثير من المستعمرات بعد أن عجز عن تأمين العنصر البشري لمسك الأرض. وكان العامل الديموغرافي هو أحد أسباب تخلي فرنسا عن ضم الجزائر والسبب الرئيسي في زوال نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقا كما أسلفنا، وفي فشل المشروع الصهيوني (من الفرات الى النيل) فلم يستطع الصهاينة اليهود التمدد خارج فلسطين وفي فلسطين نفسها حاصرهم النمو الديموغرافي الفلسطيني وأصبح عدد الفلسطينيين مساويا تقريبا لعدد اليهود ويضاف اليهم خمسة ملايين لاجيء فلسطيني في الشتات يطالبون بحق العودة.
4- ولقد تنبه كثير من السياسيين وعلماء الإجتماع الغربيين الى هذه الظاهرة المهددة لوجود مجتمعهم وحضارتهم، وإقترحوا حلولا كثيرة منها العودة الى التدين والعفة وتعزيز الروابط الأسرية ومنع الإجهاض وتقديم المعونات للمتزوجين وتقييد الهجرة من الخارج، إلا ان كل هذه الحلول أصدمت بحقيقة أن أصل الداء هو في الأسس الفكرية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية للمجتمع الصناعي الغربي. إن الأمريكي الأبيض يفضل اليوم تربية كلب أو قطة على تربية طفل، لإن تربية الكلاب والقطط أرخص وهي لا تعيق حركته ولا تقيد حريته.
5 – الضمور الديموغرافي هو أحد العوامل الدافعة الى النزعة العدوانية في السياسات الغربية عموما والأمريكية على وجه خاص، وهو إحد أسباب ظهور الدعوات لصراع الحضارات وتسارع سباق التسلح النووي وتضخيم العدو الهيلامي المسمى(الإرهاب الدولي). الطبقة الحاكمة في أمريكا تجد في إثارة الحروب والنزاعات إحدى الوسائل لتعديل الميزان الديموغرافي، مستندة في ذلك الى نظرية مالثوس الذي يرى أن الكوارث الطبيعية والحروب كفيلة بإعادة التوازن الديموغرافي. ومن المتوقع أن تستمر عدوانية المؤسسة الأمريكية تغذيها أوهام التفوق العنصري والقوة الغاشمة وخواء أخلاقي وضعف ثقة بالمستقبل.
ثالثا : ملاحظات ختامية
1 – النظام السياسي الأمريكي الحالي هو الممثل لمصالح دكتاتورية رأس المال المتحالفة مع الصهيونية العالمية. وهو أكثر النظم السياسية في العالم خروجا على مباديء الديموقراطية. البعض تخدعه مظاهر الحرية الفردية الواسعة والدعايات والمهرجانات الإنتخابية، بينما هو في الجوهر نظام يخدم المصالح غير المشروعة لقلة من الرأسماليين البيض والصهاينة. إن من يتصدى للعمل السياسي في أمريكا، فردا كان أو حزبا، يحتاج الى تمويل كبير والتمويل يأتي من الشركات الكبرى، وهذه لا تقدم الأموال إلاّ لمن يخدم مصالحها. و إذا تحدثنا عن ممارسات النظام (الديمقراطي) الأمريكي في علاقاته الخارجية فسنجدها الأبعد عن الديمقراطية والحرية والإحتكام إلى العقل. إنها سياسات تستند الى مبدأ القوة فوق الحق وتنتهك كل مباديء القانون الدولي. ولإعطاء نماذج من هذه الممارسات (الديمقراطية) نشير الى أن الولايات المتحدة قامت، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بالهجوم العسكري المسلح على عشرين دولة في مختلف أجزاء العالم، رغم أن أيّا من هذه الدول لم تكن تشكل تهديدا مباشرا أو غير مباشر على أمنها. وهي الدولة الوحيدة في العالم التي إستخدمت الأسلحة النووية ضد مدينتين يابانيتين وبدون أي مبررعسكري. وهي التي أنشأت كيانا عنصريا على الأرض العربية وزودت هذا الكيان بكل وسائل القتل والتدمير والعدوان والتوسع. وهي التي دعمت وتدعم أكثر الأنظمة السياسية إستبداد في العالم. وهي التي قالت وزيرة خارجيتها عام 1996 إن موت نصف مليون طفل عراقي هو ثمن مقبول لإدامة الحصار على العراق، وهي التي سئل وزير دفاعها عن اعمال السلب والنهب في العراق عند إحتلالهم العراق فأجاب (هذه هي الديمقراطية أن يمارس الشعب ما يريد ويعبر كما يشاء).
إن اوباما ونائبه اليميني المتطرف جو بايدن وكبير موظفيه الإسرائيلي رام إيمانوئيل حفيد عضو عصابة (الأرغون) الإرهابية، لن يكونوا أكثر من ادوات لخدمة هذه (المؤسسة) في سياساتها الداخلية والخارجية.
2 – إن تصحيح علاقة المؤسسة الحاكمة الأمريكية بشعبها وبالعالم لا يأتي من خلال لون بشرة الرئيس، بل من خلال تغيير جوهري في عقائدها وسياساتها. وهذا التغيير لن يأتي إلا من خلال أمرين. الأول هو إشتراك الشعب الأمريكي بشكل فاعل في العمل السياسي وتشكيل أحزاب ومنظمات تمثل مصالحه الحقيقية، وقد بدأ الوعي السياسي للشعب الأمريكي بالنمو في السنين الأخيرة، ومن مظاهره إنتظام الملايين منهم في حركات ومنظمات معارضة لسياسات حكومتهم ومؤسساتها. والثاني هو إصرار دول العالم على الدفاع عن حقوقها إزاء الإنتهاكات الأمريكية والإصرار على سيادة القانون في العلاقات الدولية.
لقد أسدت المقاومة العراقية خدمة كبرى للشعب الأمريكي عندما هزمت العدوان الأمريكي على العراق وعززت سعي الشعب الأمريكي لتسلم زمام أموره بيده. المقاومة العراقية هي الصديقة الحقيقية للشعب الأمريكي وليس العملاء التافهون مزوري التاريخ الذين يزينون لإمريكا سوء أعمالها مثل الطالباني الذي قال في رسالة التهنئة الى الرئيس بوش في 4/7/2008 بمناسبة العيد الوطني الأمريكي : (لقد قدمت أمتكم العظيمة، و عبر تضحياتها باسم حرية و تحرير الشعوب، إسهاما إنسانيا كبيرا في تحرير الإنسان من قيود الظلم و الطغيان، و لن ينسى احد التضحيات التي قدمها الشعب الأمريكي العظيم في تحرير الشعوب في أوربا و آسيا و الشرق الأوسط من الدكتاتوريات البشعة، كما أن الشعب العراقي لن ينسى دماء أبنائكم التي أسهمت في تحريره).
3- وأخيرا، لنستذكر الآية الكريمة من سورة الكوثر﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ﴾ التي بشرت وتبشر مبغضي الرسول محمد (ص) الى يوم الساعة بإنهم هم مقطوعي الخبر والذكر والنسل، لتدفعنا الى المزيد من البذل والعطاء لرفض الظلم والظالمين وبناء عالم تسوده مباديء العدل والمساواة بين الشعوب.
والله المستعان
بغداد 11/11/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق