الأربعاء، نوفمبر 12، 2008

تيم حاش

كتابات أبو الحق
عاشر من ت 2
2008



المكان : مدينة الموصل , الضفة الغربية لنهر دجلة , والمسماة بالجانب الأيمن , و لحّدْ يسألني عن سبب هالتسمية المحوولة !! رجاءا ...
التاريخ : أواخر أربعينات القرن الماضي , أيام الكَب والركّي السوبر سايز الأخضر طوووووووخ !!

...كانت هناك ساحة ترابية يسميها أبي ب " المنطرد" , أشار إليها ذات مرة وحكى لي حكاية عنها , لا حاجة لتعريف موقعها وفق الجي بي إس أو بالأحداثيات السينية-الصادية , فقد كانت مثابة مستمرة لسحابة غبار هائج طيلة الوقت من الظهر للعصر , بفعل النشاطات الكروية هناك , ...تلك كانت أول ساحة مصلاوية لكرة القدم , عالطريقة العراقية , وعندما أقول عالطريقة العراقية فانا أتحدث عن قوانين و ضوابط لممارسة كرة القدم , مستقاة من ظهر مسلة حمورابي , لا علاقة لها بإتحاد الفيفا الدولي ... تستطيع أن تطلق عليها تسمية " القواعد الأناركيّة لممارسة كرة القدم المحلية " ..

تبدأ المباريات التي لا تعرف لها بداية ولا نهاية , عقب الظهيرة من كل يوم مشمس , صيفا كان الموسم أم شتاءا , والفريق الواحد , قبل إختراع القيافة المعهودة للاعبي كرة الطبّي , كما يحلو للبعض التندر بلفظها على الطريقة المصلاوية هذه , الفريق الواحد يتراوح تعداده بين سبعة إلى تسعة وأربعين لاعبا, متزايدا أو متناقصا , في أية لحظة من وقت المباراة المترهل, برغبة اللواعيب , وليس بالضرورة أن يكون العدد متساويا على الجهتين , لا بل ليس ممكنا أن تتساوى الأعداد مطلقا إلا وفق إحتمالية تبلغ الواحد بالزليون , فكل شاب يمر من قرب ساحة المنطرد تلك , كان يبادر للمشاركة طوعيا , البعض كان يدخل بالطكَاكَية والنعال , والبعض كان ينزع ما بقدميه , لينطلق إلى داخل السحابة الكونية المتربة تلك , و وفقا لما تمليه عليه الفطرة والسليقة , قد يشارك الفريق الأحمر , أو قد يختار الفريق الأزرق , علما أن تسمية الألوان هذه هي من تدخلي أنا , تأثرا ببرامج السمان الراغبين بالتنحيف على طريقة الفضائيات هذه الأيام ,....كان هناك لواعيب دائميين , وكان هناك لواعيب من وزن
" ضيوف الشرف" , لكن "سعّودي" بائع حَبْ الشمزى والقغع , أو البزر كما يسميه جيراننا على الحدود الغربية , كان شيئا متميزا , فقد كان ما يمكن تلقيبه ب "الراعي الذهبي " لمباريات كرة القدم تلك , فهو ما أن يصل للساحة كل عصرية من كل يوم , حتى يرمي أرضا تلك الصينية الممتلئة بالحب المحمص , وينطلق مثل كَريندايزر , ليذيق الفريق المقابل مرّ العذاب ومرارة الهزيمة , أهداف بالقدم العارية , و ضرب باليد وبالقدم تحت الحزام , يعني "تكسير" كما هو متعارف عليه , فالرياضة هذه هي أم الخبائث ومنبع كل حقد وكراهية وتعصب,... المهم ,... سعّودي أبو الحَبْ كان يمارس كل ما يخطر على باله من ضروب الديمقراطية , وصولا إلى تحقيق الأهداف المنشودة التي كان له نصيب الأسد فيها, أنا هنا لا أتحدث عن نتائج من وزن(4– 3) أو ( 5 – صفر) , كلا, فمدة المباراة آنذاك و حيثذاك غير مقيّدتان , شيء من وزن أربعة ساعات بلا توقف , واللاعبون من الفريق الأزرق يشوّتون الكرة في أي إتجاه كان , حتى بإتجاه حامي الهدف خاصتهم !! مع الكثير من الحذيان المتطايرة من الأقدام , فذاك وقت سبق إختراع القيطان والسحّاب , أما حامي الهدف "ذنون" الضخم الجثة , فهو لاعب متعدد الأدوار , تراه يحتكر الكرة كما يفعل سوّاقنا الأشاوس بالطريق غالبا , وينطلق بها قاطعا طول الملعب تاركا وراءه جثثا حيّة تتلوى من الألم على الأرض العارية من العشب , ولا يتوقف حتى يُسَلم الكرة في مرمى خصمه , أو ضُرّته تلك , كَولجي الفريق الأحمر, لذا لا تستغرب عندما أتحدث عن نتائج مثل( 95– 140 ) مثلا !!
كان والدي يقول لنا إن هناك مطعم باجة بقرب الساحة , صاحبه, أو الروّاس كما يسمونه بالموصل , أبو مزاحم, كهل متجهم الوجه دوما , كان يعاني كثيرا من فرط النشاط البايولوجي والفسيولوجي للواعيب فريق" تيم حاش" , كما كان أهل المنطقة يسمونهم , فتلك فترة كان فيها للأنكَليزية حضور على المفردات الشوارعية , و ذاك كان فريق الفوضى الخلاقة من قبل أن يجهد فوكوياما وجماعته من منظري السفالة الأمريكية أنفسهم بإختراع نظريات قتل الناس في أنحاء العالم على أيدي الرعاع من مواطنيهم ..
و ممّ تراه كان يعاني ذاك الشايب النحس الطباع يا ترى ؟؟
الجواب موجود بين ثنايا المشهد التالي الذي كان يتكرر بين أسبوع وآخر , مع الروّاس المبتلى برياضة كرة القدم تلك , ...
عصرية أحد الأيام , تقدم أحد الصبيان من بين أولئك اللاعبين العشوائيين , تقدم من الرجل الذي كان يدوّر الباجات, رءوس الخرفان تلك , والكيبايات والبمبارات والشغدانات وبيت الحمّص , بحركة دوّامية متكررة كما لو كانت أجراما تتدور ضمن مجرة درب اللكَامه , وقال له بكل خوف و رهبة :
" عمّو ,....ألله يخليك ...النعال مالتي وقع بالدست "
هاج الرجل وثارت ثائرته :
" إيولّو كليب بيتين الكلب , ما تبطلون هالرياضه الخزي ؟؟ أي وركم بس أغيد أفتهم فغد شي , إنتم ليش ما تلعبون يم بيوت أبّهاتكم اللي بزغوكم ؟؟"
" عمّو , الله يخليك لا تزعل , والله كنتو عَدَشوّت وطاغت من غجلي , والله هاي آخر مرّه .."
" إنجب , لا يا منعول الوالدين ..."
طبعا تلقى موفد فريق " تيم حاش " سيلا من هذه الشتائم المصلاوية , قبل أن تلين عزيمة الروّاس ويذعن للأمر إرضاءا للجموع المترقبة عن بعد ," أخذله كَشّه" كما نقول , تدويرة بالكفكيغ الكنك سايز ذاك , وأخرج فردة نعال أسود , مسلوقة طبعا من شدة الحرارة تلك , ورماه تجاه الصبي وهو يرمقه بنظرة غاضبة :
" غوح ولّي من هوني وبعد دير بالك تغشّعني وجّك الخزي هاذه .." ,
لكن الصبي بقي يحدّق بالفردة تلك لفترة وجيزة , قبل أن ينطق عبارته تلك:
" عمّو عمّو, بس لا تزعل ألله يخليك , هاي ما مالتي , هذيكه لونا رصاصي , و يمين !! , ما يَساغ مثل هاذي " !!!

هذه لتغيير المزاج فحسب , ربما ملّ البعض كثرة المآسي فيما يقرأون مني ولي , أو لغيري , أردت من القراء الأعزاء أن يشهدوا لقطة عمرها ثلاثة أرباع القرن , قبل أن تزول ذاكرتي التي تحتويها , من على وجه الأرض ...

ما يدور في العراق اليوم هو مترتبات إدارة فوضوية , لا تختلف عن طريقة فريق" تيم حاش" ذاك باللعب , لكن نحن نتحدث هنا عن سبعين سنة تفصل بين الجيلين ,.. كما لو توقف الزمان بنا , أو ربما عاد للوراء بالأصح , فما يدور في العراق لا يشبه الحال في أي بلد آخر, لا يعرف ما يجري هنا إلا من بقي وأمعن التفكير في كل مفصل من مفاصل الحياة والسياسة ومشاعر المواطنين و آلامهم ..
بالديمقراطية المستوردة التي شهدناها منذ ربيع 2003 , شهدنا الناس تذبح الناس,
و بالفوضوية التي هي نظرية عالمية معتمدة لأدارة أمور البلاد , بالفوضوية تلك , صفينه والمداس بنص جدر الروّاس , فما هو الحل الذي يناسب بلاد الرافدين يا ترى؟؟

أنا ككثيرين من القرّاء غيري , تعقبت الإنتخابات الأميركية ولي فيها نظرة ونظرات , لكن المشهد حولي لا يتحمل أن أخوض فيها كي لا يُساء فهم مقاصدي , ومع هذا فأنا أطمح ليوم نعرف فيه ما نريده حقا , ونسعى لفعل ذلك صدقا , فهذه تألمات أخواني وأخواتي من المتنورين الذين راسلوني بهذا الخصوص , كلهم عراقيون للنخاع , متألمين لحد الموت حزنا على ما دار ويدور , وهم من المذهبين ومن الديانتين ومن القوميتين , فنحن بلاد النهرين , وكل شيء لدينا منه إثنتان أو إثنتين , أحلم بيوم يصبح العراق فيه بيئة تجتذب أبناءها الذين هاجروا وسافروا , بدلا من أن تضم عظامهم مقابر الغربة , ويهبوا فلذات أكبادهم مرغمين لحضارة متقدمة وجميلة ونظيفة زاهية , لكن لا شغل لاصحابها بوطنهم ...سمّوها أمنية من الأمنيات الضائعة..
**************************************************************************
الكَب : ساحة بيع الرقي الموصلي الذي كان يتم تصديره للكويت , ايام الخير ..ولا علاقة لها بالويل كَبْ , للعلم رجاءا !!

الأناركية : إستعارة عربية اللفظ لمصطلح الفوضى والفوضوية..

الطكَاكَيّة : صنف من النعالات , أجلكم الله , لا علاقة له بشركة باتا , وسبق لشركة
" كلاركس" الشهيرة إعلان البراءة منه مسجلة عند كاتب عدل ساكريمنتو..

حَبْ الشمزى والقغع : بذور الرقي والقرع , أفيون الموصل , على عناد لينين ابو الهوه !!

حيثذاك : إبتداعات حقّانية تطوع بها العبد الفقير إثراءا للغتنا العربية ..بمعنى " في ذلك المكان"..

القيطان والسحّاب : برامجيات , أو سوفتوير , مرتبطة بالهاردوير المتسمي بالحذاء ,

الروّاس : صانع وطباخ وبائع الباجه , الأكلة المغولية التي لا تعرف موتا في مدينة الموصل , وهي تسمية مشتقة من " الرءوس" التي هي عماد الباجة وأيادها ...أرجو ألا تكون الحكاية قد أسالت لعاب إخواني المواصلة المغتربين , ..!!

الكيبايات والبمبارات والشغدانات وبيت الحمّص: تسميات ماسونيّة لأجزاء الجهاز الهضمي للخروف المرحوم , وهي التي تملأ بالرز المفلفل والمثوّم مع الحشو من اللحم الهبغ , لتنثر على الخبز المثرود نثرا, مع الحامض الليموني ومرق الثوم وحامض الليمون فوقها, أو الرارنج العراقي الخالد .. ها؟؟؟ خو مو بعدكم صامدين خوتي ؟؟

مجرة درب اللكَامه : مجرة من خيال الكاتب , جاءنا من لدنها رئيسنا القوزي جلال الطالباني و وبقية الشلة التعبانة التي تشد الرحال هذه الأيام , تحت شعار , " إيوَل لييييييخ " !!!

النعال مالتي وقع بالدست : مداسي قد سقط في قدر الطبخ

" إيولّو كليب بيتين الكلب , ما تبطلون هالرياضه الخزي ؟؟ أي وركم بس أغيد أفتهم فغد شي , إنتم ليش ما تلعبون يم بيوت أبّهاتكم اللي بزغوكم ؟؟": " يا كلاب يا أولاد الكلب , لماذا لا تكفون عن ممارسة هذه الرياضه المخزية ؟؟ انا أريد ان أفهم شيئا واحدا فحسب (حلوه هاي الفحسب) . لماذتا لا تلعبون قرب بيوت أهاليكم الذين أنجبوكم للدنيا ؟؟

" عمّو , الله يخليك لا تزعل , والله كنتو عَدَشوّت وطاغت من غجلي , والله هاي آخر مرّه .." : "عمي , أرجو ألا تهتاج مني , والله لقد كنت أرمي الكرة فأفلتت قدمي الحذاء منها , أقسم لك أن هذه هي آخر مرة ..."

" إنجب , لا يا منعول الوالدين ..."
" إخرس , يا ملعون الوالدين " وهذه الأخيرة عبارة أثيرة لدى غالبية الآباء , تعبر عن إمتنانهم لجيرانهم الذين لا يحسنون التربية ويكتفون بالإنجاب من دون تعليم ذراريهم أي شيء عن الآداب !!

أخذله كَشّه : أجرى دورة إعتيادية أو دورة كبرى بلغة العسكر وضباط الخفر , أي عملية ( إكسبلور أو براوزنك) بلغة الحاسبة والأنترنيت اليوم ..

بالكفكيغ الكنك سايز : الكفكير , بالله هاي شلون تتّرجم ؟؟ عدة من الفافون على شكل قرص مثقب ذو ذراع , تعتبر أحد أسلحة الدمار الشامل في كل مطبخ عراقي وعربي وعالمي , لكن لها دور تراثي في كل زفة مسيحية ومصلاوية عموما , هي وأختها , الآنسة جمجة , بتثليث النقاط لكل جيم !! أما الكنك سايز , فهذه عبارة مشتقة من زمن الملك غازي , تعبر عن أفضل وأفخم حجم للسيكَائر وغيرها , وحاليا , يدرس البرلمان العراقي المنتحب , بدون نقطة على الحاء , وهيئة إجتثاث المصطلحات البعثية والملكية والقومية , سبل إستبدال هذه الكلمة التي لا تتلائم مع العهد الديمقراطي الذي يعيشه العراق ... أعتقد راح يبدلوهه ب " طالباني سايز" !!

" غوح ولّي من هوني وبعد دير بالك تغشّعني وجّك الخزي هاذه .." : " أغرب عن وجهي , وإياك أن تريني وجهك المخزي هذا "

" عمّو عمّو, بس لا تزعل ألله يخليك , هاي ما مالتي , هذيكه لونا رصاصي , و يمين !! , ما يَساغ مثل هاذي " !!! : " عمي عمي , أرجوك الا تغضب , يحفظك الله , هذه الفردة لا تخصني , فتلك التي رميتها كان لونها رصاصيا , و كانت الفردة اليمنى , ليست الفردة اليسرى كهذه "

هناك تعليق واحد:

أ. د. دنحا طوبيا كوركيس يقول...

ما أجمل ذلك الصباح الذي تبدأ فيه بقراءة رسالة إلكترونية تأتيك من البعيد للبعيد لتحمل لك كلماتها رائحة الباجة المصلاوية وترسم على شفاهك ابتسامة عريضة بعرض دست (قدر) الباجة التي تتعالى منه صور لفن تشكيلي راقص لم يجرأ أحد على نقله في بث حي وعلى الهواء مباشرة (ربما بسبب التيار الكهربائي المتذبذب)،أو حتى محاكاته على ورق أو لوحة جدارية. هذه المقطوعة الأدبية سمفونية شعبية عراقية/مصلاوية بامتياز، قل نظيرها في الأدب العالمي، ومن الصعوبة بمكان ترجمة نكهتها إلى لغات العالم.
شكرا لصاحب المخيلة التي أخرجها من أرشيف الذاكرة للوجود، ونأمل أن نقرأ المزيد منها مستقبلا.

الأستاذ الدكتور دنحا طوبيا كوركيس
العراق/الأردن

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار