لا تحتاج الاتفاقية الامنية بين جورج بوش ونوري المالكي الى مرافعات لشرح خطورتها على العراق ومستقبله ووجوده ، فحين يكون الحلال بين والحرام بين،فان هذه الاتفاقية لا تتطلب فتاوى لكي تصنف في باب المحرمات. فهي باختصار شديد حولت العراق الى مستعمرة امريكية واوجدت مبررقانوني لبقاء قوات الاحتلال في العراق كبديل للتفويض الاممي بهذا الشان والذي سينفذ مفعوله في نهاية العام الحالي . واغلب الظن بان الاتفاقية ستوقع قبل رحيل بوش،فهو في امس الحاجة الى تحقيق انتصار من هذا الوزن لتغطية هزيمته وانقاذ سمعته كاسوا رئيس عرفته الولايات المتحدة الامريكية.
حين قدم بوش الاتفاقية قبل عدة شهور، جوبهت من قبل العراقيين برفض شعبي عام وكاد ان يتحول الى انتفاضة شعبية شاملة ، مما اضطره الى تاجيل التوقيع عليها في الموعد الذي حدد في 31 تموز الماضي، ومنذ ذلك الحين وبوش يعمل بكل جهد على تجميل وجهها القبيح عساها ان تقنع العراقيين بقبولها او السكوت عنها، ، ويبدو ان الاقدار تتدخل احيانا لصالح المظلومين ،حيث اختار بوش لتحقيق الهدف المنشود وسائل تدعو للسخرية وتوكد على غبائه وجهله المطبق عما يمتاز به الشعب العراقي من خبرة في تعامله مع اعدائه وقدرة على كشف مخططاتهم واساليبهم الملتوية، وفي هذا الصدد راحت اجهزة الاعلام التابعة له تتحدث عن مفاوضات صعبة وشاقة بين الحكومة والمحتل تحول دون توقيع الاتفاقية، ،حتى خيل للمرء بان المفاوضات تجري بين امريكا وموسكو وليس بين امريكا والعراق المحتل ، او بين ادارة امريكية تحكم العالم وحكومة عينها السفير الامريكي في العراق وحدد مهمتها بانجاز هذه الاتفاقية، لينتهي دورها لاحقا مثلما ما انتهت اليه حكومة اياد علاوي وابراهيم الجعفري.
الحديث عن مفاوضات شاقة ووجود خلافات وعن بطولات المالكي وتحويله الى رجل وطني من العيار الثقيل الى اخر هذه الترهات وتمسكه ،ويا للسخرية، باستقلال العراق وسيادته الوطنية ، تنفيها الوقائع وتتعاكس مع ابسط قواعد المنطق ، اضافة الى ان التاريخ لم يقدم لنا نموذجا مشابها. لقد سمعنا عن مفاوضات قد تعثرت او واجهتنها عقبات بين دولتين مستقلتين متساوية او متقاربة من حيث القوة والمكانة، جراء سعى كل طرف منها الى تحقيق مكاسب على حساب الطرف الاخر، لكننا لم نسمع عن مفاوضات تعثرت او واجهتها مشاكل بين دولة محتلة وبين الدولة التي احتلتها، هنا لا وجود للمفاوضات بهذا المعنى او اقل منه بكثير،وانما هي مجرد املاءات من امر على ماموره. ولو كان العراق دولة مستقلة ،كما يدعي بوش، لما تصرف المفاوض الامريكي مع المالكي كما يتصرف السيد مع عبده ، فهو قد قال له قبل عدة ايام ،هذه مسودة الاتفاقية الاخيرة وهي غير قابلة للتغير او التعديل ولم يبق عليك سوى توقيعها قبل نهاية العام الحالي. بعبارة مختصرة فان اي مفاوضات بين اي طرفين وايا كانت مكانتهما ولاي غرض كان ، تحكمها موازين القوى، فالقوي ياخذ ما يريد والضعيف يعطي دون مقابل. ثم هل حفظ لنا سجل الحروب الاستعمارية بان حكومة عينها المحتل وتاتمر بامره ويعتمد وجودها على حمايته تمكنت من فرض شروطها وبهذ السهولة؟
نعم استجاب بوش لبعض الطلبات فيما يتعلق بمحاكمة الجنود الامريكيين ومقاضاة المدنيين وصلاحيات الامريكان بتوقيف الاشخاص او القبض عليهم ،الا ان هذه الاستجابة ليست بسبب ضعف بوش او مازقه على اهميته، وانما بسبب وجود بنود اخرى في الاتفاقية تبطل مفعول كل منها على حدة. اما قبوله بان تنص الاتفاقية على انسحاب القوات الامريكية من العراق في نهاية عام 2011 بدل نهاية عام 2018 ،وهنا بيت القصيد او الخديعة الكبرى، ، انما اراد منه بوش تحقيق اهداف عدة ، خاصة وان بامكانه او من سيخلفه التملص من تنفيذه في اي وقت جراء ربط الانسحاب ببنود اخرى ومنها تحسن الوضع الامني وقدرة الحكومة على الدفاع عن العراق ضد الاخطار الداخلية والخارجية وهذا قد يتطلب ، للوصول اليه عقود طويلة من الزمن وربما مئة عام كما قال جون ماكين المرشح الجمهوري للرئاسة الامريكية.
من هذه الاهداف اعتقاد بوش الساذج بان كلمة الانسحاب لها تاثير سحري على الشعوب التي تسعى للخلاص من نير الاحتلال وبالتالي يمكن ايهام العراقيين بان امريكا لا تنوي البقاء فعلا في العراق الى ما لا نهاية ، ومنها ايضا تشجيع بعض القوى الوطنية المحسوبة على معسكر المقاومة على الدخول في العملية السياسية اذا ما قبلت امريكا بتحديد مدة الانسحاب او وضع جدول زمني له، وها هي امريكا قد فعلتها. ومنها قناعة بوش على وجه التحديد بفوز اوباما بمنصب الرئاسة الذي اكد في حملته الانتخابية بانه سيسحب الجنود الامريكان من العراق الامر الذي سيبعث الامل لدى العراقيين بقبول مقايضة الانسحاب بالاتفاقية الامنية. ومنها اخيرا تسويق المالكي وتحويله من عميل الى وطني لكي يكون مقبولا حين سيوقع على الاتفاقية المشؤومة، باعتباره بطل عملية الانسحاب.
بصرف النظر عن اهداف بوش او احتمال نجاح مسعاه او تورط هذه الجهة او تلك في هذا الفخ وبصرف النظر عن خبرة شعبنا وقدرته على التعامل مع المحتلين وكشف زيف الاعيبهم وخدعهم، فان مناقشة ما يجري على اساس وقائع التاريخ وحقيقة اهداف المحتل اضافة الى حقائق القوة يعد واجبا وطنيا وفي هذا الصدد سنلامس هذه الجوانب باختصار شديد.
اولا: ان التاريخ لم يقدم لنا مثلا عن محتل انسحب طواعية لمجرد مطالبة حكومة البلد المحتل بذلك،وانما يلجا المحتل الى الانسحاب اذا لم تتمكن قواته المحتلة من الصمود امام المقاومة او ان الاهداف التي جاء من اجل تحقيقها لم تعد تساوي التضحيات التي تقدم على هذا الطريق، وهنا لابد من الاشارة الى ان المحتل رغم كل المازق الذي يعاني منه لم يصل بعد الى هذا الحد وما يشيعه البعض بان المحتل سياخذ عصاه ويرحل على وجه السرعة سيلحق الضرر في مخطط المقاومة الذي تم بنائه على اساس الحرب الشعبية الطويلة الامد.
ثانيا ان اهداف بوش والتي لا يتمكن اوباما او غيره تجاهلها ، تذهب الى ابعد من احتلال العراق ذاته. فهي لم تقتصر على السيطرة على البلاد او ثروته او نفطه او حماية الكيان الصهيوني من خطره فحسب ، وانما كان هدفها النهائي ان يشكل احتلال العراق الحلقة المركزية في بناء الامبراطورية الامريكية الكونية التي تحكم العالم حتى نهاية التاريخ دون منازع او منافس، فاذا حدث وسيحدث ان هزمت امريكا في العراق، فان المشروع الامبراطوري الكوني سيهزم وستنكفا امريكا الى داخلها كقوة عظمى من بين قوى عظمى اخرى وربما اقل شانا منها.وهذا ما لا يقبله اي رئيس امريكي طواعية.
ثالثا ان حقائق القوة ستفرض نفسها على العلاقة بين محتل وحكومة تابعة له وبالتالي فانه ليس بامكان المالكي او غيره وهو يعمل بامرة المحتل تحقيق اي مكسب للعراق وباي طريقة، ولقد جسد المالكي والطالباني وغيره هذه العلاقة دون حياء او خجل ، حيث اعترف الاول وعلى الملآ بانه غير قادر على تحريك سرية من جيشه المفبرك من مكان الى اخر دون اذن من سلطة الاحتلال،واعترف الثاني بان القرار الاول والاخير في الصغيرة والكبيرة يعود للسفير الامريكي.
ولكن هذا ليس كل شيء فاذا حدث وجرى توقيع الاتفاقية قبل رحيل بوش فهل من مصلحة الرئيس الجديد التخلي عن الاتفاقية اذا قرر الانسحاب فعلا بعد 16 شهر؟ خاصة وان الاتفاقية تتضمن وجود خمسين قاعدة عسكرية في طول البلاد وعرضها وان فهم اوباما للانسحاب ينحصر في اخلاء المدن وتموضع قوات الاحتلال في هذه القواعد ثم اليس من المحتمل جدا ان يتراجع اوباما عن الانسحاب لاي سبب كان، ترى من هي الجهة الضامنة لالزام الجانب الامريكي بتطبيق بنود الاتفاقية في هذا الجانب ؟ هل هي الامم المتحدة ام مجلس امنها؟ ام المحكمة الدولية او غيرها ؟
على الاقل وفي المدى المنظور فالجهتان الاولى والثانية هي من شرعن الاحتلال وساهم في تكريسه وساعد في انقاذه من السقوط ، واذا حدث وجرى تغيرفي موقفيهما لصالح العراق، ترى هل لدى الامم المتحدة او مجلس امنها القدرة او القوة على اجبار امريكا على الالتزام ببنود الاتفاقية؟ ام انها ستكتفي بالمطالبة او في احسن الاحوال اصدار قرار بهذا الشان ثم يركن في احدى الرفوف الرفوف العالية من مكاتب الامم المتحدة ومجلس الامن. ان العالم اليوم لا تحكمه قوة الحق وانما تحكمه حقائق القوة. والقانون كما يقال ليس السيد في حالات كهذه وانما السيادة لحقائق القوة. اما محكمة العدل الدولية فانها لم تتمكن لحد الان من محاكمة مجرم امريكي او اخر ينتمي الى دولة قوية او ينتمي الى دولة تقع تحت الحماية الامريكية.ام ان المالكي وجيشه المفبرك سيقوم بهذه المهمة.
ان من يجبر المحتل على الانسحاب ويحرر البلاد والعباد من رجس الاحتلال ويحافظ على حقوق العراق، هو الشعب العراقي ومقاومته الباسلة ، وسياتي هذا اليوم عاجلا ام اجلا، اذ ليس هناك من شعب قبل بالاحتلال كامر واقع مهما كان هذا المحتل قويا وجبارا ومهما كان الشعب المحتل ضعيفا، والعراقيون كانوا من بين الشعوب التي اشتهرت بمقاومة الغزاة والمحتلين عبر عصور التاريخ المختلفة ، ولا نذيع سرا بان المقاومة اليوم تتجه نحو تحقيق الانتقال من الدفاع الاستراتيجي الى الهجوم الاستراتيجي بصرف النظر متى وكيف وفي اي مدينة ستكون البداية. عندها يكون الحديث عن عقد اتفاقية من بند واحد قابلة للتحقيق، وهو ارحلوا عن بلادنا دون قيد او شرط وتحملوا كافة النتائج الضارة التي ترتبت عن جريمة الاحتلال، وما عداها ستكون اجراءات تنفيذية ليس الا.
عوني القلمجي
9/11/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق