تموت الدجاجة وعينها على المزبلة
مثل عراقي
شبكة البصرة
صلاح المختار
البعض عد فوز باراك اوباما (انقلابا كبيرا) في امريكا وسياساتها، والبعض الاخر فسره على انه عصر امريكي جديد (مطهر) من العنصرية الامريكية التي سادت في امريكا منذ جلب السود لخدمة البيض. هل هذا صحيح؟ لكي لا نقع في فخ التضليل الامريكي المخطط ستراتيجيا، فيما يلي ملاحظات اساسية وسريعة حول فوز اوباما في انتخابات الرئاسة الامريكية ومدلولاته ونتائجه واسبابه.
ملاحظات تذكيرية
لتجنب الوقوع في فخ التفسيرات النمطية الساذجة، او المضللة، ثمة حقائق اساسية معروفة يجب تذكرها عند التعامل مع مدلولات فوز اوباما، ومنها :
1 – ان الرئيس الامريكي، طبقا للدستور الامريكي، اداة تنفيذية في المقام الاول واجبها تنفيذ خطط وضعت قبله، سرية غير رسمية وعلنية رسمية، وعليه اما مواصلة تنفيذها او البدء بتنفيذ الجديد منها، او تنفيذ خطة جديدة كليا لم يضعها هو بكل تأكيد بل وضعتها القوى التي اوصلته للرئاسة، وفي هذا الاطار تتحدد صلاحياته ومرونة حركته بصفته اداة تنفيذية وصلاحياتها محصورة في الاطار التنفيذي.
2 – ان من يضمن فوز الرئيس في الانتخابات هو من يمول الحملات الانتخابية وهي الاحتكارات الكبرى، والتي صرفت في الحملة الاخيرة مبلغ مليارين 400 الف دولار حسب الارقام الرسمية الامريكية المعلنة ! ان السؤال الجوهري هنا هو : لم تصرف اموال هائلة في الانتخابات اذا كان المطلوب انتخاب الافضل والاقدر؟ الجواب قدمه لنا انتخاب اوباما شخصيا، فهذا الشخص المغمور عالميا، وغير المشهور حتى امريكيا قبل اختياره كمرشح، كان لابد من رسم صورة مغرية وجذابة له لاقناع الراي العام بانتخابه، وهذا ماحصل بالفعل عبر الاعلام الذي لم يخفي دعمه له، وهذه ملاحظة بالغة الاهمية في تحديد الدوافع الحقيقية لانتخاب اوباما رغم انه مجهول المزايا والمواصفات والامكانات!
وهنا يجب ان نذكّر بان الاعلام الامريكي هو الاداة الضاربة والاساسية بيد الاحتكارات الراسمالية الامريكية، الاكثر خطورة وتأثيرا من القوات المسلحة والمخابرات داخل وخارج امريكا.
3 – بهذا التحديد الواقعي فان الرئيس الامريكي ليس مستقلا عن القوى الاساسية المتحكمة في المجتمع، واهمها الواسب (Wasp)، وهي (النخبة الانكلو- سكسونية البروتستانتية البيضاء) التي تسيطر على اهم مفاصل الاقتصاد الامريكي وتحدد اتجاهات ومستقبل امريكا، وليس اللوبي الصهيوني كما يعتقد بعض من لا يعرف التكوين الاقتصادي لامريكا جيدا. الرئيس اداة والعوبة الاحتكارات وهو رهينتها ان اراد التملص من التزامه باتفاقية الجنتلمان التي وافق عليها عند اختياره مرشحا احرق، كنيكسون في فضيحة ووترجيت وكلنتون في فضيحة مونيكا، او اغتيل كما حصل لجون كنيدي - هل تصدقون ان رئيس امريكا يتم اغتياله ولا يعرف رسميا من هو القاتل بعد مرور اربعة عقود من الزمن مع ان المخابرات الامريكية هي الاكثر تطورا في العالم والاكثر ثراء حيث يخصص لها سنويا اكثر من ثلاثين مليار دولار؟ - او ابتز كما حصل لرونالد ريجان.
الواسب، بكل ما تعتمد عليه من مراكز بحوث وقوى ضغط وامكانات مالية، تضمن تحديد التوجه الرئيسي لامريكا داخليا وخارجيا من خلال السيطرة على الرئيس واعضاء الكونغرس والاعلام واللوبيات، والسبب هو ان امريكا دولة تجارة في المقام الاول وليست دولة مبادئ او قيم انسانية او اخلاقية، وهي خاضعة لارادة وثقافة وتوجه نخب مقررة وحاكمة تفتقر بشكل كارثي الى القيم الانسانية والاخلاقية، لان حافزها الرئيس، بل الاوحد، هو مراكمة الدولارات بالنهب المنظم في الداخل والنهب المنظم واللصوصي في الخارج، وبغض النظر عن الثمن الانساني الذي تتحمله البشرية من جراء هذه السياسات الاجرامية.
4 – لتجنب تمرد الرئيس على القوى التي توصله للبيت الابيض فقد برز توجه واضح منذ اغتيال جون كنيدي وهو انتخاب رؤوساء اغبياء او سذج سياسيا، وربما حمقى، لضمان السيطرة عليهم وعدم وقوعهم تحت اغراء ذكاءهم فيستخدمون صلاحيات الرئيس الدستورية لتغيير الاتجاه المقرر. ان جونسن وفورد وكارتر وبوش الاب وبوش الابن عبارة عن رؤوساء اما عاديين ولا مواهب لهم او انهم ضعفاء الشخصية، ولذلك فحينما انتخب رئيس امريكي ذكي وقوي، مثل نيكسون وكلنتون، تم حرقه بفظاظة. ولملأ فراغ الجهل والضعف لدى الرئيس يحاط بعشرات الخبراء الذين يحددون خياراته، وهؤلاء الخبراء هم كلاب حراسة النظام الراسمالي الامريكي الاكثر شراسة وبعدا عن اي مفهوم انساني او قيمة اخلاقية.
ولدينا امثلة بارزة تشكل عار امريكي دائم : هنري كيسنجر، الذي كان شيطان حرب فيتنام التي ذبح فيها حالي ثلاثة ملايين فيتنامي، وريتشارد بيرل وبول وولفووتز، ورهطهما من المحافظين الجدد، الذين كانو القتلة الذين خططو لغزو العراق استنادا على اكاذيب كانو يعرفون انها اكاذيب، وادى ذلك الى ابادة مليون ونصف مليون عراقي فقط بعد الغزو في عام 2003، وتشريد حوالي ستة ملايين عراقي من ديارهم وتدمير دولة كاملة ومجتمع كامل، كانا مستقرين ومزدهرين، فقط كي يسيطرو على نفط العراق ويدمرو تجربة بناء دولة قوية متقدمة كانت تشكل انموذجا مغريا للنهضة القومية العربية. علما انه بين عامي 1991 و2003 قتل اكثر من مليوني عراقي نتيجة للحصار الشامل والحرب التي فرضت على العراق في تلك الفترة، فتكون النخب الامريكية الفاشية قد ابادت ثلاثة ملايين ونصف المليون عراقي منذ عام 1991 من اجل السيطرة على نفط العراق ومحو هويته العربية ودفن اي انموذج عربي ايجابي!
مشروع القرن الامريكي
أضافة لما تقدم، ولاجل ان نكون في قلب الحقيقة لابد من التذكير ايضا بالتطورات الي حصلت منذ غزو العراق، والتي كانت بمجملها تمنع قيام المشروع الامبراطوي الامريكي، اذ من المعروف انه منذ نشوء امريكا كان المؤسسون الاوائل يحلمون بالسيطرة على العالم وان تكون امريكا هي قائدته بلا منازع، وكانت التعبيرات البارزة عن هذا الحلم هي الترويج لفكرة (عولمة القيم الامريكية) اي جعلها تسود عالميا، بل ان بعض المؤسسين قد افترض، قبل احتلال فلسطين واقامة الكيان الصهيوني فيها بأكثر من مائة عام، ان امريكا هي (اسرائيل) التي وعد الرب بها، في العهد القديم من الكتاب المقدس، اي (ارض الميعاد)!
ثم أنطلقت الراسمالية الامريكية، بعد ان اكملت عوامل خروجها من القارة الى العالم في اعقاب الحرب العالمية الثانية وانهاء سياسة العزلة، لتكون القوة الاقتصادية الاكبر في العالم، اولا، ثم القوة العسكرية الهائلة، ثانيا، التي يجب ان تحقق الحلم الامريكي التقليدي : السيطرة على العالم. وفي ضوء تجربة تأريخية، ومامر ويمر به المجتمع الامريكي من ظواهر مثل التمييز العنصري، ونتيجة لدروس حرب فيتنام وغيرها توصلت النخب المقررة في امريكا الى ان قيام امبراطورية عالمية امريكية مشروط بتذليل عقبات كثيرة، من بينها الطابع الاستعماري لحروب امريكا المقترن بنزعة عنصرية ضد الملونين، مما جعل التوسع الامريكي مستحيلا وكارثيا على امريكا كما على الشعوب التي تحتلها.
فما الحل الذي يعطل، او على الاقل يخفف، مقاومة الشعوب لاستعمار عنصري امريكي؟ الجواب هو الديمقراطية وحقوق الانسان، من جهة، و(التنوع العرقي) من جهة ثانية. تحت شعار الديمقراطية وحقوق الانسان ونشرها ارادت امريكا ان تقدم انموذجا لعلاقة غير تقليدية تقوم على نشر مفاهيم تساوي بين البشر. اما العنصرية فقد تأثرت نخب امريكية بخطة الاسكندر الاكبر، وهي اقامة امبراطورية متعددة الاعراق تقوم على المساواة بينها، وكان النموذج الامريكي كمجتمع مهاجرين متعددي الاعراق يقدم مثالا واضحا لذلك، لكنه مثال معكوس اي انه مجتمع يقوم على عدم المساواة وتحقير الملونين واسغلالهم.
ان العنصرية تتناقض مع النزعة الامبراطورية الكونية وتعد احد اهم عوامل نشوء حصانة ضد الامبريالية الامريكية لدى الشعوب التي تريد امريكا غزو بلدانها، لانها تجبر تلك الشعوب على مقاومة استعمار يحتقرها عنصريا، وبما ان الامبراطورية الامريكية هي، بالاساس، نتاج نظام راسمالي قانونه الاهم هو تحقيق الربح بغض النظر عن طريقة تحقيقه فان استخدام الملونين لتحقيق الربح حاجة ضرورية حتى لو ادت الى تجاوز التمييز العنصري بصورة شكلية او فعلية جزئيا او كليا.
اذن نحن بازاء حاجتين تفرضهما ضرورات اقامة امبراطورية كونية امريكية وهما : الحاجة لتحشيد شعبي امريكي داخلي يضمن دعم كل مكونات المجتمع الامريكي للخطط الامبراطورية، والحاجة لاضعاف مقاومة الشعوب الاخرى للغزو الامريكي لها عن طريق التلويح بالمساواة بين الاعراق والقوميات والاديان على اساس الديمقراطية وحقوق الانسان.
مع طرح (المحافظون الجدد) خطة اطلقو عليها تسمية (مشروع القرن الامريكي)، في تزامن واضح مع ظهور بوادر انهيار الشيوعية الاوربية في اواخر الثمانينيات، شرعت امريكا بتطبيق خطة تلوين هياكلها السياسية والادارية بكافة الوان المجتمع الامريكي : رأينا كولن باول الاسود يعين رئيسا للاركان في القوات المسلحة التي حاربت العراق في عام 1991، وراينا بيل ريشاردسون اللاتيني يبرز سفيرا مميزا. كانت تلك رسالة موحية تقول بان امريكا تتحول من دولة فيها تمييز عنصري الى دولة متسامحة وتساوي بين مواطنيها.
ومع تقدم خطوات أقامة المشروع الامبراطوري الامريكي ازدادت ظاهرة تعيين ملونين في مراكز قيادية : كونداليزا رايس السوداء مستشارة للامن القومي ثم وزيرة للخارجية، وقبلها كولن باول يريد ترشيح نفسه للرئاسة، في عملية جس نبض لرد الفعل العام لدى البيض، ويعين وزيرا للخارجية، ونرى الكثير من السفراء لاتينيين او اسيويين مثل زلماي خليل زادة الافغاني الاصل.
هذه الرسائل وصلت الى الداخل الامريكي فوجدت ترحيبا من الملونين فزاد انخراطهم في الغزوات الامريكية للعراق وافغانستان، وراينا في العراق الجنود الامريكيين السود يتميزون بشراسة اشد من شراسة الجنود البيض في التعامل مع العراقيين، خصوصا في مجال اغتصاب النساء! ووصلت الرسالة الى الخارج حيث تلقفها انصار (العصر الامريكي) للترويج لفكرة ان امريكا ليست عنصرية وانها تجاوزت الارث العنصري بدليل تعيين قادة سياسيين وعسكريين من السود واللاتينيين والاسيويين.
في ضوء الملاحظات السابقة فان السؤال الذي لابد من طرحه هو : لماذا فاز اوباما؟
اوباما تتويج ناجح
ان ترشيح وفوز اوباما في الانتخابات الرئاسية الامريكية يأتي في سياق جدلية اعداد امريكا لغزو العالم باقل مقاومة ممكنة. فوجود رئيس امريكي اسود يقدم الرد القوي على من يتهم امريكا بانها دولة عنصرية معادية للشعوب الاخرى، ويؤكد بان امريكا (لا تهتم باللون والعرق والدين) بل تهتم بالديمقراطية والحرية والمساواة، مما يسهل مهمة انصار امريكا داخل الشعوب الاخرى لاجل دعم سيطرة امريكا على بلدانهم تحت شعارات العولمة وتوحيد العالم والتأقلم مع عصر غابت فيه السيادة واصبح بلا حدود...الخ . انه منطق شكلي ليس بالمدان كليا كما يبدو للوهلة الاولى!
وازدادت اهمية هذه الخطة الامبراطورية حينما واجهت امريكا الفشل الكارثي نتيجة بروز المقاومة العراقية التي بطحت امريكا على ارض العراق وقلبت الحسابات الستراتيجية الامريكية راسا على عقب، رغم ان امريكا كانت واثقة ثقة مطلقة من ان البيئة المناسبة لتحقيق حلم الاباء المؤسسين لامريكا في السيطرة على العالم قد توفرت بانهيار الاتحاد السوفيتي وزوال اهم عقبة امام الحلم الامريكي الاستعماري. بين كارثية الفشل الامريكي وضرورة مواصلة السعي لتحقيق الحلم الامريكي راينا نظرية التنوع العرقي تفرض نفسها كقارب انقاذ لامريكا.
نظرية الابتزاز النفطي
لنعد الى الخلف مرة اخرى : في عام بدء انهيارات اوربا الشرقية الاولية (1989) في بلغاريا والمانيا الشرقية اطلق جورج بوش الاب، الرئيس الامريكي وقتها، وعده الشهير (ان القرن القادم سيكون امريكيا)! وكان ذلك تلخيصا دقيقا لما تريد امريكا تحقيقه مستغلة انهيار الكتلة الشيوعية وزوال اهم عقبات التوسع الامبريالي الامريكي. وطبقا للخطة الامريكية التي اصبحت معروفة الان فقد كان على امريكا ان تسيطر على العالم، دون حروب شاملة، بالاعتماد على عامل الابتزاز النفطي بالدرجة الاولى، لانها لا تملك القدرات العسكرية ولا الاقتصادية لغزو العالم مباشرة، من خلال السيطرة على منابع النفط الاساسية كلها وليس اغلبها، لاجل توفير اداة ابتزاز حاسمة لا ترد وهي الابتزاز بالنفط، مادام النفط هو المحرك للعالم الحديث ودم حياته وانه اذا نقص او غاب سوف يحدث كوارث متسلسلة تدمر الاقتصاد والمجتمع في اي دولة.
وبما ان امريكا تسيطر عمليا على نفط الخليج العربي باستثناء العراق، مع ان الاخير يملك الاحتياطي الاهم والاكبر والافضل، فان السيطرة بالابتزاز النفطي غير ممكنة بدون السيطرة على العراق لمنعه من تحرير الكتل العالمية من الابتزاز النفطي الامريكي بتزويدها بالنفط العراقي وهو ما يفشل ستراتيجية الابتزاز النفطي. ان غزو العراق في عام 2003 والاصرار عليه منذ عام 1988 وليس منذ عام 1990 كان نتاج خطة الابتزاز بالنفط، وهذه حقيقة لا يمكن فهم ما جرى وما يجري في العراق وحوله بدون اخذها بنظر الاعتبار.
كانت خطة جعل القرن الحادي والعشرين قرنا امريكيا كما وعد بوش الاب تقوم على غزو العراق وضم نفطه لنفوط الخليج العربي والسيطرة على نفط قزوين ونفوط افريقيا، واستخدام الابتزاز النفطي الساحق والذي لا يرد من اجل فرض الشروط الامريكية على كل العالم، وهي شروط اقامة نظام عالمي اوحد القطبية تتحكم امريكا من خلاله بكل العالم وبلا استثناء. من هنا فنا غزو العراق هو خطوة الاساسية في جعل القرن الجديد قرنا امريكيا وبدون هذا الغزو لن تستطيع امريكا تحقيق الحلم الاقدم والاعظم لها. ان الاصرار على غزو العراق رغم معارضة اغلب العالم ورغم مقاومة شعب العراق وقيادته الوطنية وصمودهما لمدة 13 عاما، وان تلفيق الاكاذيب بطريقة فجة وغبية لاجل القيام بالغزو، وان تحمل امريكا كل الاثار السلبية لاصرارها على الغزو، يقدم لنا تفسيرا منطقيا سليما لاهمية العراق في تحقيق الحلم الامريكي.
بالاضافة لذلك فان خطة غزو العراق كانت تقوم على فرضية ساذجة وهي ان الغزو سيكون سهلا جدا وان الشعب العراقي سيرحب بالغزاة ومن ثم فان تمويل الغزو لن يكون بواسطة الخزينة الامريكية الفقيرة والعاجزة عن تمويل احتياجات المجتمع الامريكي، بل بموارد نفط العراق، وهكذا فان اهم شروط خطة جعل القرن الجديد قرنا امريكيا هو شرط غزو العراق.
صفعة المقاومة العراقية
لكن المفاجئة الستراتيجية التي صدمت امريكا واحبطت خطتها، الاخطر والاقرب الى قلوب ذوي النزعة الاستعمارية الكونية، هي المقاومة العراقية المسلحة التي اعد لها وفجرها النظام الوطني بقيادة الشهيد صدام حسين، ووجدت تجاوبا شعبيا عراقيا عاما وفعالا. لقد توقف المشروع الامبراطوري الامريكي وتعطل عند اسوار بغداد، كما وعد القائد الشهيد صدام حسين، فسقط في المنطقة التي اعتقدت امريكا انها ستكون مركز انطلاق المشروع الكوني الامريكي، اي العراق. خلال السنوات الخمسة من عمر الاحتلال واجهت امريكا فشلا ستراتيجيا خطيرا في العراق اوقف عملية تعاقب خطوات مشروعها الامبراطوري ومنعه من الانتشار في دول اخرى وحصره في العراق واصبحت امريكا تدافع يائسة عن مشورعها وهي تنزف حتى الموت.
بل ان المقاومة العراقية فجرت اهم الازمات، التي حاولت امريكا السيطرة عليها ومعالجتها عبر غزو العراق، وهي الازمة البنيوية للنظام الراسمالي الامريكي، فالسيطرة على النفط العراقي كانت مقدمة للسيطرة المريحة على العالم لعدة عقود، وربما لقرن كامل، مما يعطل تفجر الازمة، بفضل تسخير موارد العالم لخدمة الاقتصاد الامريكي المريض، او يؤجلها لاجل غير مسمى. لكن حدة المقاومة واتساعها وعمقها وتجذرها اجبر امريكا على الاعتماد على مواردها في تمويل الحرب بعكس ما وعد به المحافظون الجدد وهو تمويل الحرب بموارد النفط العراقي.
ماذا حصل نتيجة الاضطرار الامريكي لتمويل الحرب من الخزينة الامريكية؟ ان الاعتماد على زيادة الضرائب لتمويل الحرب غير امن شعبيا، لانه يقضي على شعبية الحرب والغزو والتي وصلت حد تأييد حوالي 75% من الراي العام لبوش بعد غزوه للعراق، لذلك لجأت امريكا الى الاقتراض لتمويل الحرب، كما اكد الرئيس السابق بيل كلنتون في نقده لسياسة بوش، والا قتراض هذا ادى الى زيادة كارثية في الدين العام حيث كان قبل الغزو اكثر من اربعة تريليون دولار واصبح بعد الغزو 9 تريليون ومائتي الف مليار دولار، وهو مرشح ان يصبح في نهاية هذا العام اكثر من عشرة تريليون دولار! انها لعنة العراق الاولى.
مرة اخرى ولاجل المزيد من الوضوح : ما معنى هذا الرقم الفلكي؟ انه يعني ان امريكا تحارب بالدين وتأكل بالدين وتدير المجتمع بالدين، الامر الذي يجعل الانهيار الامريكي الكامل والشامل ممكنا في اي لحظة وعند حصول اي ازمة مالية او كارثة طبيعية كبيرة.
ونتيجة للمديونية الامريكية هذه، التي تساوي عدد الدولارات المستخدمة دون رصيد ذهبي في العالم وداخل امريكا، بدأت الكارثة المالية تتبلور وتتكون وحصل الانهيار المالي الامريكي الان، وسببه الاول والاهم غزو العراق دون ادنى شك. هذا الواقع الكارثي المركب (هزيمة ستراتيجية في العراق وفشل اقتصادي) لايهدد بفقدان امريكا لدورها العالمي فقط بل الاخطر انه يدفع بها دفعا نحو التشرذم كدولة اذا لم تجري محاولة انقاذ جذرية وسريعة.
خطة الانقاذ
ان خروج امريكا من المستنقع العراقي، سواء بنصر مرغوب لكنه مستحيل، او بانسحاب مؤلم لكنه ممكن، هو المهمة الاساسية للنخب الامريكية المقررة في مرحلة غروب المشروع الامريكي وفشله الذريع. وبما ان الحزب الجمهوري هو من ورط امريكا في المستنقع العراقي فان الانقاذ يجب ان يأتي من الحزب الديمقراطي مع ضرورة ان يتم الاخراج بصيغة (اتفاق وطني) امريكي عام بين الحزبين على الحل. هل هذا كل شيء؟ كلا بالطبع فذلك هو الاطار العام للحل الممكن، ان امريكا ك(الدجاجة تموت وعينها على المزبلة) كما يقول المثل العراقي، لا تريد الخروج مهزومة من العراق بدون مكافئة، والاتفاقية النفطية هي المكافئة التي تريدها امريكا. وبدون الاتفاقية النفطية (الاتفاقية الامنية ملحقة وخادمة للاتفاقية النفطية) لن تخرج امريكا الا مهزومة كليا ومباشرة ورسميا مع تجريدها من اي قدرة على ادعاء انها (اكملت المهمة) وانسحبت.
ان وصول اوباما للادارة ماهو الا تمهيد متدرج لاعادة تشكيل امريكا من الداخل اولا، لتكون قادرة على منع الانهيار الشامل وتفككها كما حصل للاتحاد السوفيتي، وبعد ذلك تبدأ عملية اعادة (الروح) لامريكا لتكون قطبا اساسيا من بين عدة اقطاب وليس القطب المهيمن. ما هي مستلزمات تنفيذ هذه الخطة؟ ان انقاذ امريكا يتطلب تغييرات بنيوية جذرية في الدولة والمجتمع من بينها خطوات بدء اتخاذها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي ومنها :
1 – تدخل الدولة في الاقتصاد : ليس من شك بان مواجهة حالة تداعي النظام الراسمالي الامريكي ووصوله حافة الانهيار، كنظام عام اجتماعي – اقتصادي وليس كنظام مالي فقط، سوف تفرض تعزيز دور الدولة في المجتمع خصوصا في الاقتصاد وذلك لتنظيم النشاطات الاقتصادية بطريقة تمنع سقوط امريكا من الحافة، التي وصلت اليها بفضل المقاومة العراقية، الى القعر المظلم. لقد انتهت فترة الليبرالية الاقتصادية في امريكا نتيجة ضغوط الوصول الى الحافة.
2 – تدخل الدولة في الحياة العامة : ان ضبط حركة الاقتصاد يفرض ضبط حركة الافراد في المجتمع، فالليبرالية والحريات الفردية والحقوق الاساسية للمواطن يعاد النظر فيها اذا تهدد (النظام العام)، ومن المؤكد ان اعظم تهديد هو انهيار النظام الاقتصادي، لذلك فان الازمة الحالية سوف تكون غطاء قويا لتجريد الافراد من الكثير من حرياتهم وحقوقهم المدنية (خدمة) لعملية اعادة بناء الاقتصاد. هذا هو السبب الظاهري اما السبب الحقيقي فهو ان الليبرالية تتعارض، في وقت واحد :
أ – تتعارض مع التوسع الامبراطوري في الخارج والذي يعني الموت في حروب والتكلفة الاقتصادية الباهضة مما يسبب الاحتجاجات والرفض الشعبي، وهو موقف يعرقل المشروع الامبراطوري مثلما حصل في العراق، لذلك لابد من تبني اليات قانونية تحد من حريات الناس.
ب – تتعارض مع ضرورات كسب دعم المواطن لاجراءات مكافحة ما يسمى (الارهاب) في الداخل، والتي تعني مراقبة الحياة الخاصة والاعتقالات بدون امر قضائي والحد من الاحتجاجات وغيرها من مظاهر الليبرالية الامريكية. ان الهوس الرسمي الامريكي بظاهرة الارهاب والمبالغة فيها ليس امرا جديدا ولا هو نتاج تهديد خارجي حقيقي، كما قد يظن البعض، بل هو نتاج تفاقم الازمة البنيوية للنظام الراسمالي الامريكي، المتبلورة منذ السبعينيات، والتي بدأت تتجه نحو سرطنة النظام بكامله منذ الثمانينيات حينما اصبح العجزين التجاري والفدرالي خطيرين وبدأ الدين العام بالظهور والازدياد، (في عهد ريجان). نعم ان جذور تقليص الليبرالية الامريكية ابتدأت في عهد ريجان وتمثلت في منح المخابرات الامريكية (C.I.A) صلاحيات مراقبة وتدخل في الداخل الامريكي مع ان واجبها كان في الخارج فقط وكان مكتب التحقيقات الفدرالية (F.B.I) هو المسؤول عن الامن الداخلي. وكان السبب الظاهري هو الارهاب الذي نسب الى ليبيا وقتها والادعاء بان (فرق تخريب ليبية) قد تدخل امريكا كم كندا! واقترن ذلك بعمليات عسكرية في غرانادا وغيرها لتاكيد ان امريكا تتعرض لمخاطر خارجية، ولاعداد الراي العام الامريكي للعودة الى سياسة الحرب والغزو.
الان وبعد التقدم الكبير والحاسم، خصوصا منذ هجمات ايلول – سبتمبر عام 2001، نحو نظام امريكي بوليسي او شبه بوليسي سنرى الازمة المالية تستخدم مسوغا لتعزيز قبضة الدولة على المجتمع، لان ذلك احد اهم الشروط الاساسية لمنع سقوط امريكا من الحافة في الهاوية. بالدولة البوليسية فقط يمكن تاخير انهيار الراسمالية الامريكية، وبالدولة البوليسية فقط يمكن لامريكا ان تواصل سياسة المغامرات العسكرية في الخارج. هذا هو الدرس الاهم الذي تعلمته النخب المسيطرة على الاقتصاد الامريكي من خلال تجربة العقود الثلاثة الاخيرة من التطور المرضي للنظام الراسمالي، والعجز عن معالجة ازماته او السيطرة عليها في ظل الليبرالية الامريكية الاقتصادية والسياسية.
3 – دعم الطبقة الوسطى الامريكية التي تعرضت منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، في عهود بوش الاب وكلنتون وبوش الابن، الى التقلص في دورها وعددها، واصابها الفقر ونزلت الى مستوى قريب من الطبقة الفقيرة، مع ان الطبقة الوسطى كانت تاريخيا هي الرافعة الاساسية للمجتمع الامريكي. ان دعم الطبقة الوسطى يستهدف زجها في عملية نشطة لاعادة البناء بعد ان ادى تراجعها وافقارها الى غياب عنصر المبادرة والابتكار والتجديد في النظام العام.
4 – بالنسبة للعراق من الواضح ان امريكا في عهد اوباما ستقوم بالضغط اكثر لتوقيع الاتفاقية الامنية لتكون الغطاء الحديدي الذي يحمي الاتفاقية النفطية، ثم الانسحاب من العراق الى دول الجوار (خصوصا تركيا والكويت) لاجل ممارسة الضغوط، خصوصا العسكرية عن طريق اعادة فرض مناطق الحظر الجوي والقصف الدوري، على الحكومة الوطنية بعد تحرير العراق لمنعها من الغاء الاتفاقية النفطية. ان من اهم الحقائق التي تعرفها النخب الامريكية، بعد تجربة خمس سنوات من الغزو المقترن بمقاومة مسلحة شرسة، حقيقة ان البقاء في العراق هو البوابة الحتمية المفضية لتفاقم الازمة المالية وتحولها الى ازمة عامة متفجرة من المستحيل السيطرة عليها.
ومن المرجح ان الخطوة الدرامية القادمة ستكون الانقلاب العسكري الذي تريد به امريكا تأخير انتصار المقاومة المسلحة، بواسطة استقطاب اجزاء مهمة من الراي العام العراقي، باستغلال شعار حبيب على قلوب ملايين العراقيين وهو (تصفية) اتباع ايران في العراق. لكن الانقلاب، اذا وقع، سيصبح لاحقا اللعنة العراقية على امريكا وعلى من سيقوم به.
عقدة الملونين
واخيرا لابد من الاشارة الى حقيقة معروفة وهي ان الامريكيين من اصول غير اوربية، يصبحون اداوت طيعة ومتطرفة في تنفيذ الاوامر الامريكية بصورة اسوأ من الامريكيين البيض، لمجرد اثبات انهم لا يختلفون عن البيض في الولاء لامريكا! هل تذكرون جون ابي زيد، ذو الاصل العربي، الذي كان قائد القوات الامريكية في العراق؟ لقد كان جون ابي زيد امريكيا متطرفا ضد العراقيين اكثر من الامريكيين من اصل اوربي لاثبات انه لم يعد عربيا وان اصله ماض لا قيمة له!
لذلك لابد من طرح السؤال التالي : هل تعمد انتخاب اوباما، وبشكل كاسح، هدفه استغلال لونه لتسييره كما تريد النخب البيض لتحقيق اهداف داخلية وخارجية تسهل منطق التوسع الامبراطوري؟ هل ان الاصل الافريقي لاوباما سيسهل استغلال (عقدة نقص الاصل غير الاوربي) لديه ومن ثم فانه سيكون اقسى واسوأ من جورج بوش الابن؟ أم ان الهدف هو تحشيد طاقات كل الامريكيين، بكافة الونهم، لضمان ان تكون امريكا احد اهم الاقطاب الدوليين في النظام العالمي الجديد الذي نرى الان ملامحه تتكون؟
12/11/2008
salahalmukhtar@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق