وشهدَ شاهدٌ من أسيادهم - الخارجية الأمريكية : فرق الموت تابعة لبدر والداخلية
المسؤولين في وزارة الصحّة يستخدمـون سيارات الاسعاف لنقل الاسلحـة لفرق الموت، وتنفيذ المئات من عمليات القتل والاختطاف الطائفيه للمرضى الذين يرقدون في المستشفيات العراقية
كتابات - ناصر محمود
تحرص وزارة الخارجية الأمريكية على إصدار تقارير سنوية عن حالة حقوق الإنسان في مختلف دول العالم. إن هذا الإجراء قلّما تلجأ إليه الدول فهو من اختصاص المنظمات الدولية، لكن، الخارجية الأمريكية، تعطي لنفسها هذا الحقّ على اعتبار أنها الوجه الخارجي لراعية الديمقراطية وحقوق الإنسان الأولى في العالم!
ما يهمّنا في تقرير الخارجية الأمريكية الصادر في منتصف شهر آذار/2008 هو الجزء المتعلق بالعراق الذي يقع في ثلاثين صفحة تتناول معظم جوانب حقوق الإنسان. فمن اللافت للنظر أن التقرير مرّ دون أن يسلط احد الضوء عليه على عكس ما كان يجري في سنوات ما قبل الإحتلال عند تناول موضوع العراق من قبل الإدارة الأمريكية حيث تتداعى وسائل الإعلام والكتاب المأجورين للحديث عن الموضوع في إطار حملات إعلامية منظمة.
لم تنسَ الخارجية الأمريكية أن تبتدأ تقريرها بالعبارة التي تستخدمها كلّما تحدثت عن عراق الإحتلال، إذ لا بدّ ان تقول: في العراق حكومة منتخبة من قبل الشعب وبأنتخابات حرّة جرت حسب المعايير الدولية.
ولا يحتاج المرء هنا لإبداء تعجبّه من ذلك، فالأمر اضحى واضحاً وضوح الشمس، والكلّ يعرف الآن اية حكومة هذه وأية إنتخابات تلك التي جاءت بها، لكن الذي يثير العجب هو ما سنراه في التقرير عن أفعال هذه الحكومة التي ما تزال الولايات المتحدّة تصرّ على أنها حكومة ديمقراطية!
تلك الأفعال مشخصّة منذ البداية، وقد كُتبَ عنها الكثير، لكنها المرّة الأولى التي تكتب عنها الخارجية الأمريكية بهذه الوقاحة وكأنها بريئة منها.
في الإيجاز يرسم التقرير صورة لواقع الحال في العراق الحرّ الديمقراطي؛ اذ تتزاحم مفردات العنف، القتل، الإختطاف، الإختفاء القسري، الإحتجاز التعسفي، الحرمان التعسفي من الحياة، الممارسات الطائفية، الفساد المستشري، الإعدام خارج القانون، التعذيب، المعاملة المهينة، سوء الأوضاع في مرافق الإحتجاز والسجون، الحرمان من محاكمات علنيه عادلة، الإفلات من العقاب، إقتحام البيوت وإنتهاك حرماتها، الحدّ من حرّية التجمعات، الحدّ من حرية التعبير، القيود على الصحافة، ملاحقة الصحفيين، القيود على المنظمات غير الحكومية، التمييز ضد المرأة، أعداد هائلة من المشردين داخلياً واللاجئين خارجياً، الإفتقار الى حماية اللاجئين وعديمي الجنسية، التمييز ضد الأقليات الأثنية والدينية، الإتجار بالبشر، وغير ذلك من المفردات التي قلّما تجتمع في مكان واحد، وإن اجتمعت فان الحديث عن الحكومة المنتخبة، والديمقراطية وحقوق الإنسان في ذلك المكان يصبح ضرباً من الخيال.
وفي مقابل كل تلك الجرائم والممارسات، فأن (الافلات من العقاب ـ impunity) هو طريق النجاة الذي ترسمه إجراءات هذه (الحكومة الديمقراطية) أمام هؤلاء المجرمين عبر تحقيقاتها الوهمية التي على كثرتها أصبح من الصعب إحصاؤها.
ولن نتحدث هنا عن كل ما جاء في التقرير عن الجرائم المذكورة أعلاه، وإنما عن جوانب محدّدة فيه وربما نتناول الجوانب الأخرى في حلقة قادمة.
من يرسم حالة حقوق الإنسان في العراق؟
يتناول التقرير أدوار اللاعبين الذين يتناوبون أو يتعاونون على رسم الصورة المأساوية للأوضاع في العراق. يتحدّث التقرير عن ما قامت به قوات الأمن العراقية، من خروقات بما فيها الإعدامات خارج نطاق القانون، وممارسة ابشع أنواع التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة للمحتجزين. وبكل بساطة يقرّ التقريراشتراك هذه القوات، التي لا ينكر عن أنها تعمل بدعم من (القوة المتعددة الجنسيات)، في "فرق الموت ـDeath Squads " الظاهرة التي جعلت من الموت رفيقاً للعراقيين اينما حلّوا، على إختلاف دياناتهم، مذاهبهم واعراقهم.
وفي هذا الصدد، يتحدث التقرير عن دور الميليشيات، وبخاصة بدر وجيش المهدي، وكيف انها تغلغلت في قوى الأمن الداخلي ومفاصل الدولة الأخرى وراحت تشكلُّ فرقاً للموت مستخدمة الغطاء الرسمي لتنفيذ أفعالها الإجرامية. ويشير التقرير أن كل ذلك تزامن مع تعاظم الإختلاسات من قبل المسؤولين والأحزاب الطائفية العميلة مما أدّى إلى استشراء الفساد وصولاً الى أعلى المستويات في (الحكم) مما أثّر على حمايه حقوق الانسان!
ويحقٌُ لكل متابع لمأساة العراق أن يتسائل، من المسؤول عن إنشاء وتدريب وتسليح الميليشيات الطائفية وخلق البيئة الملائمة لها للعمل بحرية ودون عقاب؟ أليست أميركا هي من درّب وسلّح كل هذه الميليشيات؟ اليست أميركا هي من يستقبل قادتها في بيتها الأبيض؟ ألم يضع بوش وأفراد إدارته، سليلي الديمقراطية العريقة والمدافعين عن مبادئ حقوق الإنسان (كما يحلوا لهم الإدعاء)، يدهم في يد قاتل مجرم مثل عبد العزيز الحكيم الذي يدير فرق الموت هذه؟ ألم يأتوا بكل هؤلاء الذين يقودون هذه الفرق ووفرّوا لهم كل ظروف تماديهم في جرائمهم؟.
أم أن الطيور على أشكالها تقع! والمجرمون يجمعهم سلوكهم الإجرامي، ونفوسهم المريضة الحاقدة على كل ما هو إنساني.
وعند الحديث عن خلفيات ومسببّات ما يجري فأن التأريخ عند الإدارة الأمريكية يبدأ عند العام 2006، إذ يضع التقرير كل ما يحدث على خلفية تفجير المرقدين الشريفين في سامراء، وكأن الأعوام التي سبقته كانت أعوام إستقرار ونعيم، فلا ذكر لأبو غريب وبوكا، لا ذكر لعملياتها في النجف و حديثة و الفلوجة و سامراء والرمادي وبعقوبة وتلعفر وما نجم عنها من اختفاء واعتقال وقتل للآلاف من الأبرياء، هذا بالإضافة إلى ما ألحقته تلك العمليات من دمار بالمستلزمات الإنسانية الأساسية: السكن، مياه الشرب، الغذاء، المؤسسات الصحّية...التعليم.
التقرير لم ينس، بالطبع، الإشارة الى مساهمة جماعات متطرفه أو إرهابية في أعمال الخطف والقتل والترويع. لكن، الأمر المهمّ الذي نساه او تناساه، هو الإشارة الى المسبّب الرئيس لكل ذلك! فلا ذكر لقوات الإحتلال، لا ذكر لسجونها وممارساتها، لا ذكر للعمليات العسكرية وما يرافقها من إعتقالات للأبرياء. لا ذكر للدور الأمريكي ـ الصهيوني المحموم في خلق وتغذيه التوترات الطائفيه والعرقية والسعي لتقويض كل أسس التعايش وكل معاني وقيم حقوق الإنسان. لا ذكر للمرتزقة، والمتعاقدين، والمجموعات الإرهابية وفرق الموت المرتبطة بها.
لا ذكر للمأساة التي جاءت بكل ما أعقبها من مآسي وكوارث؛ الغزو والإحتلال!
فرق للموت بلباس حكومي
وعند الولوج في الأبواب الأخرى نجد أنه في باب إحترام حقوق الإنسان يتناول التقرير في عنوان فرعي، مسألة الحرمان التعسفي أو غير القانوني من الحياة، فيؤكدّ على أنه (خلال العام كان هناك العديد من التقارير ان الحكومة أو الأجهزة التابعة لها قد إرتكبت أعمال قتل تعسفي او غير قانوني وخاصة قوات الأمن). ويمضي في الإيضاح فيقول: (إن جهات مشتركة في الحكومة تمارس بصورة غير شرعية اعمال القتل خارج نطاق القضاء extrajudicial killings في جميع انحاء البلاد على نطاق واسع.... وأن بعض وحدات الشرطة عملت بمثابة "فرق موت").
وأن ميليشيا منظمة بدر التابعة لما يسمّى المجلس الأعلى الاسلامي في العراق (isci) وميليشيا جيش المهدي تستخدم نفوذها في قوى الأمن الداخلي لتنفيذ أجندتها الطائفية من خلال فرق الموت هذه.
ويعبّر التقرير عن عدم الرضا على طريقة معاقبة (الحكومة) للمشتركين في فرق الموت هذه إذ وفقاً للتقرير (تم اجراء تنقلات وتغييرات لكن لم تكن هناك ملاحقات جنائية).
ومن الأمثلة عن دور الأجهزة الحكومية في فرق الموت، يشير التقرير الى ان ضباط اللواء الأول التابع لـ (الشرطة الوطنية) في وزارة الداخلية قد ارتكبوا أعمال قتل للمدنيين في بغداد وفي أماكن تقع خارج نطاق مسؤولياتها.
ويضيف التقرير، أن فرق الموت التابعة لوزارة الداخلية (وجلّها من المجلس الأعلى طبعاً) تنفذّ غارات وعمليات القتل والإختطاف فى بغداد وضواحيها. وينقل أن مبتدع الإجرام صولاغ أعلن في آيار/ مايو 2006 في بيان الى الصحافة، بأعتباره وزيراً للداخلية آنذاك، القاء القبض على ضابط برتبة لواء مع 17 شخصاً من موظفي الوزارة المتورطين في الإختطاف و"فرق الموت". وأن صولاغ أكدّ في تلك التصريحات وجود فرق موت في وزارة الدفاع أيضاً.
وينقل التقرير أن وزارة الداخلية اعلنت في تشرين الأول/ أكتوبر 2006 قراراً لإصلاح اللواء الثامن من الشرطة الوطنية بسبب دعمه لفرق الموت!! وأن وزير الداخلية (البديل) جواد البولاني إتهم اللواء المذكور بخطف وقتل 26 من عمال أحد المصانع الغذائيه في بغداد في تشرين الأول/ أكتوبر 2006. وكانت السيارات المستخدمة في الإختطاف هي سيارات وزارة الداخلية، وأن معظم المشاركين في الإختطاف والقتل كانوا يرتدون زي الشرطة.
هذه الإعلانات تشكل إعترافات (رسمية) بهذه الجرائم وإدانة لكل الساكتين عنها وعن ملاحقة مرتكبيها وإنزال القصاص العادل بهم.
ويشير التقرير الى ما نشرته بعثة الأمم المتحدة في العراق (UNAMI) في تقاريرها بخصوص ضلوع قوى الأمن والعسكريين في عمليات القتل في بغداد. وينقل عنها عدّة أمثلة عن قيام أفراد يرتدون الزيّ الرسمي للجيش أو الشرطة باعتقال أشخاص ثم يتمّ العثور على جثثهم او جثث بعضهم قتلى بعد ذلك. وقيام أفراد من قوى الأمن يرتدون زيّ الشرطة باطلاق النار على المدنيين في هذا المكان أو ذاك. ويبدي التقرير استغراباً من أن في كل مرّة تعلن (الحكومة) عن تشكيل لجنة للتحقيق في هذه الحوادث، لكن بالطبع دون نتائج تذكر.
فرق موت صحّية!
ويسلّط التقرير الضوء على قضية أخرى يعرفها القاصي والداني لكنها ظلّت محلّ تكذيب من الأجهزة الحكومية. اذ يتناول ما كان يجري في وزارة الصحّة، هذه الوزارة التي يفترض ان تكون أكثر المؤسسات قرباً من القضايا الإنسانية، فاذا بها غارقة في أبشع صور الإجرام.
يشيرّ التقرير الى حادثة إلقاء القبض، في شباط /فبراير/2007، من قبل القوات الأمريكية على عدد من كبار المسؤولين في وزارة الصحّة، بما فيهم نائب وزير الصحة (حاكم الزاملي)، ووجّهت اليه تهمة تنظيم قتل المئات من الأبرياء في مستشفيات بغداد، بما في ذلك المرضى، وافراد أسرهم، والموظفين الصحييّن. ويؤكدّ التقرير أن الزاملي، كان يشرف على عصابة تضمّ نحو 150 من افراد الحمايه في وزارة الصحّة تمارس أبشع جرائم الإختطاف والقتل الطائفية، تتحرك بكل حرّية في جميع أنحاء العاصمة بغداد بهويّات وزارة الصحّة وسيارات الإسعاف التابعة لها التي كانت تستخدمها في الإختطاف والقتل وتستخدمها أيضاً لنقل الأسلحة .
يؤكدّ التقرير أيضاً، أن هذه العصابة (الصحيّة) قدّ اختطفت وقتلت العديد من المرضى في مستشفيات بغداد الرئيسة مثل (اليرموك ، ابن النفيس، النور) في الفترة من 2005 الى اوائل عام 2007، حيث تلاحق هذه العصابة المرضى بحجّة إنتمائهم لتنظيم القاعدة، وتلاحق كل من يأتي لزيارتهم الى المستشفى من افراد أسرهم ومعارفهم، كما تقتل أهاليهم عندما يذهبون لإستعادة جثثهم من مشرحة الطب العدلي!!.
فما الذي بقي من حقوق الإنسان في العراق تحت ظل الديمقراطية التي يتشدق بها بوش وزبانيته؟
نحن نتذكر أن حتى مدير المشرحة في الطب العدلي قد هرب بجلده من العراق خوفاً على حياته من أفعال هذه العصابة لمجرد أنه كان يسجل اعداد من تستلمهم مشرحته!
لقد كانت معظم هذه المعلومات حديث الشارع في مدن العراق المنكوبة بالحرّية الأمريكية، وكتب عنها الكثير كما أسلفنا، لكن الردّ، في كل مرّة، كان التكذيب أو التقليل من المصداقية. الآن يأتي ما يؤكدّ مصداقية ما كتب وما قيل، ولا نملك إلاّ أن نرفع اصواتنا مذكّرين قوات الإحتلال الأمريكي أن محاولتها النأي بنفسها عن ما توثّقه من جرائم وخروقات هي محاولة يائسة، فبموجب القانون الدولي تظلّ هي المسؤولة الأولى عن كل ذلك.
ويمكن للمرء أن يعدّد لذلك الكثير من الأسباب تأكيداً لتلك المسؤولية، منها على سبيل المثال لا الحصر: أن الولايات المتحدّة هي من هيأ كل أسباب الجرائم هذه من خلالها غزوها وإحتلالها لبلد حرّ مستقل، ومن الأعضاء المؤسسين للأمم المتحدّة. وهي التي حلّت جيش العراق الوطني، والشرطة العراقية الوطنية وقوى الأمن الداخلي، ومعظم الأجهزة التي كانت تسهر على أمن وراحة المواطنين.
وهي التي أنشأت جيشاً قوامه المجرمون وأفراد العصابات وأعضاء الميليشيات والأحزاب الطائفية الذين لم يتدربوا سوى على كيفية مداهمة بيوت الناس في جوف الليل، وترويع الأطفال والنساء وهتك الأعراض، وأسبغت على هذه الأفعال غطاءً قانونياً زائفاً. وأنها، مهما حاولت إعادة تسمية مهمّة قواتها في العراق، فقد دخلت غازيةً محتلةً وأن ممارساتها المستمرّة على الأرض تؤكدّ إستمرار هذا الإحتلال، وتؤكدّ مسؤوليتها القانونية عن كل ما يجري، هذا فضلاً عن مسؤولياتها المضافة كونها عضو دائم في مجلس الأمن الدولي.
ثم ألا يحق لنا التساؤل أيضاً عن نتائج تحقيق اللجان الأمريكية عن الجرائم التي إقترفتها وتقترفها يومياً قواتها ومرتزقتها ضدّ أبناء العراق؟.
فإذا كانت الولايات المتحدة جادّة فعلاً في هذا الموضوع فالمطلوب بأختصار شديد القبض على كل المتورطين بفرق الموت هذه وتقديمهم للمحاكمة. والأهمّ من كل ذلك التعجيل بإنسحابها غير المشروط من العراق مع تحمّل المسؤوليات القانونية عن كل نتائج غزوها وإحتلاها وعدوانها المستمر منذ العام 1991.
المسؤولين في وزارة الصحّة يستخدمـون سيارات الاسعاف لنقل الاسلحـة لفرق الموت، وتنفيذ المئات من عمليات القتل والاختطاف الطائفيه للمرضى الذين يرقدون في المستشفيات العراقية
كتابات - ناصر محمود
تحرص وزارة الخارجية الأمريكية على إصدار تقارير سنوية عن حالة حقوق الإنسان في مختلف دول العالم. إن هذا الإجراء قلّما تلجأ إليه الدول فهو من اختصاص المنظمات الدولية، لكن، الخارجية الأمريكية، تعطي لنفسها هذا الحقّ على اعتبار أنها الوجه الخارجي لراعية الديمقراطية وحقوق الإنسان الأولى في العالم!
ما يهمّنا في تقرير الخارجية الأمريكية الصادر في منتصف شهر آذار/2008 هو الجزء المتعلق بالعراق الذي يقع في ثلاثين صفحة تتناول معظم جوانب حقوق الإنسان. فمن اللافت للنظر أن التقرير مرّ دون أن يسلط احد الضوء عليه على عكس ما كان يجري في سنوات ما قبل الإحتلال عند تناول موضوع العراق من قبل الإدارة الأمريكية حيث تتداعى وسائل الإعلام والكتاب المأجورين للحديث عن الموضوع في إطار حملات إعلامية منظمة.
لم تنسَ الخارجية الأمريكية أن تبتدأ تقريرها بالعبارة التي تستخدمها كلّما تحدثت عن عراق الإحتلال، إذ لا بدّ ان تقول: في العراق حكومة منتخبة من قبل الشعب وبأنتخابات حرّة جرت حسب المعايير الدولية.
ولا يحتاج المرء هنا لإبداء تعجبّه من ذلك، فالأمر اضحى واضحاً وضوح الشمس، والكلّ يعرف الآن اية حكومة هذه وأية إنتخابات تلك التي جاءت بها، لكن الذي يثير العجب هو ما سنراه في التقرير عن أفعال هذه الحكومة التي ما تزال الولايات المتحدّة تصرّ على أنها حكومة ديمقراطية!
تلك الأفعال مشخصّة منذ البداية، وقد كُتبَ عنها الكثير، لكنها المرّة الأولى التي تكتب عنها الخارجية الأمريكية بهذه الوقاحة وكأنها بريئة منها.
في الإيجاز يرسم التقرير صورة لواقع الحال في العراق الحرّ الديمقراطي؛ اذ تتزاحم مفردات العنف، القتل، الإختطاف، الإختفاء القسري، الإحتجاز التعسفي، الحرمان التعسفي من الحياة، الممارسات الطائفية، الفساد المستشري، الإعدام خارج القانون، التعذيب، المعاملة المهينة، سوء الأوضاع في مرافق الإحتجاز والسجون، الحرمان من محاكمات علنيه عادلة، الإفلات من العقاب، إقتحام البيوت وإنتهاك حرماتها، الحدّ من حرّية التجمعات، الحدّ من حرية التعبير، القيود على الصحافة، ملاحقة الصحفيين، القيود على المنظمات غير الحكومية، التمييز ضد المرأة، أعداد هائلة من المشردين داخلياً واللاجئين خارجياً، الإفتقار الى حماية اللاجئين وعديمي الجنسية، التمييز ضد الأقليات الأثنية والدينية، الإتجار بالبشر، وغير ذلك من المفردات التي قلّما تجتمع في مكان واحد، وإن اجتمعت فان الحديث عن الحكومة المنتخبة، والديمقراطية وحقوق الإنسان في ذلك المكان يصبح ضرباً من الخيال.
وفي مقابل كل تلك الجرائم والممارسات، فأن (الافلات من العقاب ـ impunity) هو طريق النجاة الذي ترسمه إجراءات هذه (الحكومة الديمقراطية) أمام هؤلاء المجرمين عبر تحقيقاتها الوهمية التي على كثرتها أصبح من الصعب إحصاؤها.
ولن نتحدث هنا عن كل ما جاء في التقرير عن الجرائم المذكورة أعلاه، وإنما عن جوانب محدّدة فيه وربما نتناول الجوانب الأخرى في حلقة قادمة.
من يرسم حالة حقوق الإنسان في العراق؟
يتناول التقرير أدوار اللاعبين الذين يتناوبون أو يتعاونون على رسم الصورة المأساوية للأوضاع في العراق. يتحدّث التقرير عن ما قامت به قوات الأمن العراقية، من خروقات بما فيها الإعدامات خارج نطاق القانون، وممارسة ابشع أنواع التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة للمحتجزين. وبكل بساطة يقرّ التقريراشتراك هذه القوات، التي لا ينكر عن أنها تعمل بدعم من (القوة المتعددة الجنسيات)، في "فرق الموت ـDeath Squads " الظاهرة التي جعلت من الموت رفيقاً للعراقيين اينما حلّوا، على إختلاف دياناتهم، مذاهبهم واعراقهم.
وفي هذا الصدد، يتحدث التقرير عن دور الميليشيات، وبخاصة بدر وجيش المهدي، وكيف انها تغلغلت في قوى الأمن الداخلي ومفاصل الدولة الأخرى وراحت تشكلُّ فرقاً للموت مستخدمة الغطاء الرسمي لتنفيذ أفعالها الإجرامية. ويشير التقرير أن كل ذلك تزامن مع تعاظم الإختلاسات من قبل المسؤولين والأحزاب الطائفية العميلة مما أدّى إلى استشراء الفساد وصولاً الى أعلى المستويات في (الحكم) مما أثّر على حمايه حقوق الانسان!
ويحقٌُ لكل متابع لمأساة العراق أن يتسائل، من المسؤول عن إنشاء وتدريب وتسليح الميليشيات الطائفية وخلق البيئة الملائمة لها للعمل بحرية ودون عقاب؟ أليست أميركا هي من درّب وسلّح كل هذه الميليشيات؟ اليست أميركا هي من يستقبل قادتها في بيتها الأبيض؟ ألم يضع بوش وأفراد إدارته، سليلي الديمقراطية العريقة والمدافعين عن مبادئ حقوق الإنسان (كما يحلوا لهم الإدعاء)، يدهم في يد قاتل مجرم مثل عبد العزيز الحكيم الذي يدير فرق الموت هذه؟ ألم يأتوا بكل هؤلاء الذين يقودون هذه الفرق ووفرّوا لهم كل ظروف تماديهم في جرائمهم؟.
أم أن الطيور على أشكالها تقع! والمجرمون يجمعهم سلوكهم الإجرامي، ونفوسهم المريضة الحاقدة على كل ما هو إنساني.
وعند الحديث عن خلفيات ومسببّات ما يجري فأن التأريخ عند الإدارة الأمريكية يبدأ عند العام 2006، إذ يضع التقرير كل ما يحدث على خلفية تفجير المرقدين الشريفين في سامراء، وكأن الأعوام التي سبقته كانت أعوام إستقرار ونعيم، فلا ذكر لأبو غريب وبوكا، لا ذكر لعملياتها في النجف و حديثة و الفلوجة و سامراء والرمادي وبعقوبة وتلعفر وما نجم عنها من اختفاء واعتقال وقتل للآلاف من الأبرياء، هذا بالإضافة إلى ما ألحقته تلك العمليات من دمار بالمستلزمات الإنسانية الأساسية: السكن، مياه الشرب، الغذاء، المؤسسات الصحّية...التعليم.
التقرير لم ينس، بالطبع، الإشارة الى مساهمة جماعات متطرفه أو إرهابية في أعمال الخطف والقتل والترويع. لكن، الأمر المهمّ الذي نساه او تناساه، هو الإشارة الى المسبّب الرئيس لكل ذلك! فلا ذكر لقوات الإحتلال، لا ذكر لسجونها وممارساتها، لا ذكر للعمليات العسكرية وما يرافقها من إعتقالات للأبرياء. لا ذكر للدور الأمريكي ـ الصهيوني المحموم في خلق وتغذيه التوترات الطائفيه والعرقية والسعي لتقويض كل أسس التعايش وكل معاني وقيم حقوق الإنسان. لا ذكر للمرتزقة، والمتعاقدين، والمجموعات الإرهابية وفرق الموت المرتبطة بها.
لا ذكر للمأساة التي جاءت بكل ما أعقبها من مآسي وكوارث؛ الغزو والإحتلال!
فرق للموت بلباس حكومي
وعند الولوج في الأبواب الأخرى نجد أنه في باب إحترام حقوق الإنسان يتناول التقرير في عنوان فرعي، مسألة الحرمان التعسفي أو غير القانوني من الحياة، فيؤكدّ على أنه (خلال العام كان هناك العديد من التقارير ان الحكومة أو الأجهزة التابعة لها قد إرتكبت أعمال قتل تعسفي او غير قانوني وخاصة قوات الأمن). ويمضي في الإيضاح فيقول: (إن جهات مشتركة في الحكومة تمارس بصورة غير شرعية اعمال القتل خارج نطاق القضاء extrajudicial killings في جميع انحاء البلاد على نطاق واسع.... وأن بعض وحدات الشرطة عملت بمثابة "فرق موت").
وأن ميليشيا منظمة بدر التابعة لما يسمّى المجلس الأعلى الاسلامي في العراق (isci) وميليشيا جيش المهدي تستخدم نفوذها في قوى الأمن الداخلي لتنفيذ أجندتها الطائفية من خلال فرق الموت هذه.
ويعبّر التقرير عن عدم الرضا على طريقة معاقبة (الحكومة) للمشتركين في فرق الموت هذه إذ وفقاً للتقرير (تم اجراء تنقلات وتغييرات لكن لم تكن هناك ملاحقات جنائية).
ومن الأمثلة عن دور الأجهزة الحكومية في فرق الموت، يشير التقرير الى ان ضباط اللواء الأول التابع لـ (الشرطة الوطنية) في وزارة الداخلية قد ارتكبوا أعمال قتل للمدنيين في بغداد وفي أماكن تقع خارج نطاق مسؤولياتها.
ويضيف التقرير، أن فرق الموت التابعة لوزارة الداخلية (وجلّها من المجلس الأعلى طبعاً) تنفذّ غارات وعمليات القتل والإختطاف فى بغداد وضواحيها. وينقل أن مبتدع الإجرام صولاغ أعلن في آيار/ مايو 2006 في بيان الى الصحافة، بأعتباره وزيراً للداخلية آنذاك، القاء القبض على ضابط برتبة لواء مع 17 شخصاً من موظفي الوزارة المتورطين في الإختطاف و"فرق الموت". وأن صولاغ أكدّ في تلك التصريحات وجود فرق موت في وزارة الدفاع أيضاً.
وينقل التقرير أن وزارة الداخلية اعلنت في تشرين الأول/ أكتوبر 2006 قراراً لإصلاح اللواء الثامن من الشرطة الوطنية بسبب دعمه لفرق الموت!! وأن وزير الداخلية (البديل) جواد البولاني إتهم اللواء المذكور بخطف وقتل 26 من عمال أحد المصانع الغذائيه في بغداد في تشرين الأول/ أكتوبر 2006. وكانت السيارات المستخدمة في الإختطاف هي سيارات وزارة الداخلية، وأن معظم المشاركين في الإختطاف والقتل كانوا يرتدون زي الشرطة.
هذه الإعلانات تشكل إعترافات (رسمية) بهذه الجرائم وإدانة لكل الساكتين عنها وعن ملاحقة مرتكبيها وإنزال القصاص العادل بهم.
ويشير التقرير الى ما نشرته بعثة الأمم المتحدة في العراق (UNAMI) في تقاريرها بخصوص ضلوع قوى الأمن والعسكريين في عمليات القتل في بغداد. وينقل عنها عدّة أمثلة عن قيام أفراد يرتدون الزيّ الرسمي للجيش أو الشرطة باعتقال أشخاص ثم يتمّ العثور على جثثهم او جثث بعضهم قتلى بعد ذلك. وقيام أفراد من قوى الأمن يرتدون زيّ الشرطة باطلاق النار على المدنيين في هذا المكان أو ذاك. ويبدي التقرير استغراباً من أن في كل مرّة تعلن (الحكومة) عن تشكيل لجنة للتحقيق في هذه الحوادث، لكن بالطبع دون نتائج تذكر.
فرق موت صحّية!
ويسلّط التقرير الضوء على قضية أخرى يعرفها القاصي والداني لكنها ظلّت محلّ تكذيب من الأجهزة الحكومية. اذ يتناول ما كان يجري في وزارة الصحّة، هذه الوزارة التي يفترض ان تكون أكثر المؤسسات قرباً من القضايا الإنسانية، فاذا بها غارقة في أبشع صور الإجرام.
يشيرّ التقرير الى حادثة إلقاء القبض، في شباط /فبراير/2007، من قبل القوات الأمريكية على عدد من كبار المسؤولين في وزارة الصحّة، بما فيهم نائب وزير الصحة (حاكم الزاملي)، ووجّهت اليه تهمة تنظيم قتل المئات من الأبرياء في مستشفيات بغداد، بما في ذلك المرضى، وافراد أسرهم، والموظفين الصحييّن. ويؤكدّ التقرير أن الزاملي، كان يشرف على عصابة تضمّ نحو 150 من افراد الحمايه في وزارة الصحّة تمارس أبشع جرائم الإختطاف والقتل الطائفية، تتحرك بكل حرّية في جميع أنحاء العاصمة بغداد بهويّات وزارة الصحّة وسيارات الإسعاف التابعة لها التي كانت تستخدمها في الإختطاف والقتل وتستخدمها أيضاً لنقل الأسلحة .
يؤكدّ التقرير أيضاً، أن هذه العصابة (الصحيّة) قدّ اختطفت وقتلت العديد من المرضى في مستشفيات بغداد الرئيسة مثل (اليرموك ، ابن النفيس، النور) في الفترة من 2005 الى اوائل عام 2007، حيث تلاحق هذه العصابة المرضى بحجّة إنتمائهم لتنظيم القاعدة، وتلاحق كل من يأتي لزيارتهم الى المستشفى من افراد أسرهم ومعارفهم، كما تقتل أهاليهم عندما يذهبون لإستعادة جثثهم من مشرحة الطب العدلي!!.
فما الذي بقي من حقوق الإنسان في العراق تحت ظل الديمقراطية التي يتشدق بها بوش وزبانيته؟
نحن نتذكر أن حتى مدير المشرحة في الطب العدلي قد هرب بجلده من العراق خوفاً على حياته من أفعال هذه العصابة لمجرد أنه كان يسجل اعداد من تستلمهم مشرحته!
لقد كانت معظم هذه المعلومات حديث الشارع في مدن العراق المنكوبة بالحرّية الأمريكية، وكتب عنها الكثير كما أسلفنا، لكن الردّ، في كل مرّة، كان التكذيب أو التقليل من المصداقية. الآن يأتي ما يؤكدّ مصداقية ما كتب وما قيل، ولا نملك إلاّ أن نرفع اصواتنا مذكّرين قوات الإحتلال الأمريكي أن محاولتها النأي بنفسها عن ما توثّقه من جرائم وخروقات هي محاولة يائسة، فبموجب القانون الدولي تظلّ هي المسؤولة الأولى عن كل ذلك.
ويمكن للمرء أن يعدّد لذلك الكثير من الأسباب تأكيداً لتلك المسؤولية، منها على سبيل المثال لا الحصر: أن الولايات المتحدّة هي من هيأ كل أسباب الجرائم هذه من خلالها غزوها وإحتلالها لبلد حرّ مستقل، ومن الأعضاء المؤسسين للأمم المتحدّة. وهي التي حلّت جيش العراق الوطني، والشرطة العراقية الوطنية وقوى الأمن الداخلي، ومعظم الأجهزة التي كانت تسهر على أمن وراحة المواطنين.
وهي التي أنشأت جيشاً قوامه المجرمون وأفراد العصابات وأعضاء الميليشيات والأحزاب الطائفية الذين لم يتدربوا سوى على كيفية مداهمة بيوت الناس في جوف الليل، وترويع الأطفال والنساء وهتك الأعراض، وأسبغت على هذه الأفعال غطاءً قانونياً زائفاً. وأنها، مهما حاولت إعادة تسمية مهمّة قواتها في العراق، فقد دخلت غازيةً محتلةً وأن ممارساتها المستمرّة على الأرض تؤكدّ إستمرار هذا الإحتلال، وتؤكدّ مسؤوليتها القانونية عن كل ما يجري، هذا فضلاً عن مسؤولياتها المضافة كونها عضو دائم في مجلس الأمن الدولي.
ثم ألا يحق لنا التساؤل أيضاً عن نتائج تحقيق اللجان الأمريكية عن الجرائم التي إقترفتها وتقترفها يومياً قواتها ومرتزقتها ضدّ أبناء العراق؟.
فإذا كانت الولايات المتحدة جادّة فعلاً في هذا الموضوع فالمطلوب بأختصار شديد القبض على كل المتورطين بفرق الموت هذه وتقديمهم للمحاكمة. والأهمّ من كل ذلك التعجيل بإنسحابها غير المشروط من العراق مع تحمّل المسؤوليات القانونية عن كل نتائج غزوها وإحتلاها وعدوانها المستمر منذ العام 1991.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق