كتابات أبو الحق
حادي وعشرين من مايس
2008
العراقُ في بُعْد آخَر...
ملحمة غير محكيّة من قبل
تحكي السنونوات لصغارها كل ربيع وهي تتوطّن الأعشاش العراقية, عن قصة دارت هنا على أرض السواد, ربما
قصة لم تحظ كالإلياذة بشاعر أعمى يجوب كل حانة من كلّ بلد, ليحكيها,
أو يُعلي ذِكرَها و راياتها
لذا , أسمحوا لي أن أحكي للعالم أول وأغرب رواياتها..
هنا في" وادي الذئاب" كما يسمون بلدي في تركيا, هنا بالذات
يوم أن كان البحر يخفي تحته نصف أرض العراق , والتربة الطينية الحمراء تتبنى الشجيرات كما لو كنّ بناتها..
يوم كانت جبال الشمال مرتعا للدببة والأفاعي الزاحفه
وسماء العراق ملاذ لكل حمامة خائفه
وقت أن لم يكن هناك بشر يجرؤ على الصعود هناك,
رغم إلتماع الماسّ على السفوح
وكان دجلة يمتزج بالفرات جنوب تلك الجبال, فتمتزج مياههما معا
تجري المياه كنهر واحد لا حد لرؤية عرضه أو مداه ... ينثال من شرق العراق لغربه مسرعا,
كذا كانت صورة الأرض قبل حلول الطوفان الثالث, ذاك الذي قرض النساء والرجال
كانت قطعان الذئاب ترتاد السهول و تحكم أعتى القمم في تلك الجبال
يوم كانت الأبجدية عشرة أحرف لا أكثر..
على ضفاف النهر ذاك عاشا , " آهاب" و" موو",
الموسم كان ربيعا, بعد ثلاثة فصول من الثلوج, وكل مظاهر الحياة متجددة
يومها, عاد"آهاب" في الظهيرة و وزن الطريدة ينهك أكتافه
قارب الكوخ الصغير مبتسما, لكنّ منظر وجه " موو" هاله وأخافه
الشعر منكوش والعيون تعكس نظرة خاوية..
الكفّان على الشفاه تقبضان, والعينان كبحيرات الجبال..تتفايضان
" بوو را ...ناي....بوو را...ناي"
تهجّأتها بكل عسر, والأصابع تسلك كل حركة
فعندما تكون أبجديتك مجرد عشرة حروف, لابد أن تستعين بكل حركات اليدين وكل تعبيرات الوجه لتحسن توصيل المراد..
(إنها- الذئاب...خطفت –إبننا- الصغير- "ناي")
ركض "آهاب" تجاه الجنوب, حيث أشارت أصابعها النحيلة المرتعده
ركض كما لو لم تكن في عمق سيقانه أعصاب تعرف حدودا للألم ,
ركض كما لو كانت تلك آخر لحظات الحياة, كما لو كانت نهاية مهلة الزمان
ركض كثيرا ورائحة الدم على المسار تهديه,
ركض كثيرا وهو يحسّ بتجاعيد وجهه تتخلّق مع كل قفزة ,
..تتفرع حول عينيه وفوق جبينه ..تحيله شيخا قبل الأوان بأوان
وعلى الأكمة تلك, كانت حيث رآها, تتقاسم الفريسة وهي تغير على بعضها...
لم تكن هناك عبارة في قاموس مفرداته تعني الألم, لم تكن اللغات قد خلقت بعد,
لم تكن مدّيّته الصخرية المدببة معه, لقد أنساه منظر وجه " موو" المرتعب كل شيء
لم يكن بيده شيء يفعله, لم يكن يستطيع أن يفعل شيئا لقطيع من ذئاب لا قبل حتى للماموثات بها
بقي يراوح في محلّه والمشاعر تتآكله,, مرتين للأمام ومرة للخلف, أربعا لليمين وسبعا للشمال
القلب يدفعه للأمام , العقل يرفض أن..
مَكَثَ يرقب بقايا الطفل الصغير الخامد الحركة أصلا, تنهشها أنياب الوحوش, وشيء كالماء ينثال من كلّ موق عين في وجه "آهاب",فيُغرِقُ الوجنات , كانت أول مرة يحسّ بها بهذا الشعور
وكانت أقوى صرخة عرفها وادي الذئاب , من يومها..
فقد طبعت بصمتها بوجه صخور الجبال طبعا
صرخة ألم ممزوجة بالحزن والإحباط..
تلك كانت أول مشاعر الحزن الغاضب التي عرفتها أرض العراق
تلك كانت جذور كل أبوذيات العراق اللاحقة ورثائياته, والحزن الذي لا يعرف له نهاية
تلك كانت بداية ميلاد عشرة حروف أخرى, أطلقتها حنجرته لتضفي حروف الحزن على لغة البشر تلك آنذاك..
"آ-ه"و " آ-خ" و" وَيلاه", وغيرها..
تلك كانت حكاية أورثتها "موو" لكل بناتها عبر الضفائر والدموع
ولم تنس أن تحكيها للعصافير كل يوم..
أن الفرح بهذه البيئة ممنوع
وأن السواد سيتسيّد كل ألوان طيف الشمس
كل ساعة من كل يوم , كل يوم , كل أسبوع
وأن دورة الحزن هنا ستكون حلقة متصلة لا تنتهي
وأن الحزن سيضرب طوقه كل ليل, مهما تلامعَ فيه ضوء شموع
ما الذي بيدك أن تفعله عندما يهجم عليك الطغيان بقوة وبعدد لا قِبَلَ لكَ بهما؟؟
ما الذي تستطيع فعله؟؟ وما الذي ينبغي عليك عدم فعله؟؟
أنا لم أستطع أن أبقى بالخارج والموت يقطع خطوط الطول والعرض هنا
عدتُ عسى أن أفهم, وأنا أرقب الوضع, كيف كان شعور " آهاب" المسكين
عدتّ رغم أن الموت يشهر إسمي ضمن قائمته
يعلنها لكل من يتصادف معه..
عدتُ لأن "موو" هذه المرة بثّتْ حزنها في ماء دجلة فأدمته,
وساد الجوَّ صوت مخيف, لم يكن سوى صدى لذاك العويل
لم تفلح آلاف السنين بمحوه..
والشمس بكت لحالها فأقلعت عن الغروب لأمد طويل
الأرض والأنواء تعرف حرقة قلب " موو"
السهل والجبل لم ينسيا صرخة" آهاب",
كما أنّ "آهاب" لم ينس أبدا ذاك الرعب الذي إستوطن عينَي " موو"
أنا عدتّ , فالهَموم كانت تأكلني تترا, من يوم خرجت من نقطة الخابور,
و وَقعُ اللوم على قلب المسافر والمهاجر أمَرّ من طعم الحنظل !
مرحبا بك ثانية.. يا حزن العراق..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق