محمد عارف
ياباني في بغداد، يريد شراء عشر علب "كوكا كولا"، يقول للبائع: "توكو هاتاهو توياكا كولا". يسأله البائع: "عشر علب شنو؟". هذه النكتة تصوّر "براعة" أعضاء البرلمان العراقي الذين صادقوا على الاتفاقية الأمنية بين بغداد وواشنطن. لقد عجزوا عن فهم "كوكا كولا" الاتفاقية التي تعفي واشنطن من مسؤولية تعويض العراقيين تريليون دولار عن الدمار الذي ألحقته بهم، لكنهم فهموا "توكو هاتاهو توياكا" التي تقود إلى متاهة التأويلات المختلفة للاتفاقية!
تحدد الاتفاقية مواعيد وإجراءات انسحاب القوات الأميركية من المدن منتصف العام المقبل، ثم من العراق ككل نهاية عام 2011. لكن عند مقارنة نسختي الاتفاقية العربية والإنجليزية نجد "النص غير أمين للترجمة" حسب القول الساخر للأديب الأرجنتيني خورخيه لويس بورغيس. فالكلمات في النسختين نفسها لكن تأويلاتها تختلف. صرّح بذلك عدة مسؤولين أميركيين في واشنطن وبغداد أكدوا أن "الاتفاق قائم في عدد من الجوانب على الكلمات نفسها لكن الاختلاف حول ما تعنيه هذه الكلمات".
كيف نفهم عجز حكومة أنفقت مليارات الدولارات على أجهزتها العسكرية والأمنية، عن حماية خمسة أميال مربعة وسط بغداد ومسورة بالجدران؟
ويختلف تأويل أهم مواد الاتفاقية التي تمس أمن وسيادة العراق وعلاقاته بدول الجوار، كفقرة "عدم جواز استخدام أراضي وأجواء العراق ممراً أو منطلقاً لهجمات ضد دول أخرى"، والفقرة الخاصة بتبليغ العراق مُسبقاً بأي عمليات للقوات الأميركية، وفقرة "ممارسة العراق الولاية القضائية على أفراد قوات الولايات المتحدة وأفراد العنصر المدني". وذكر "مايكل أوهنلون" من "معهد بروكنجز" في واشنطن أن الجانبين العراقي والأميركي قررّا في النهاية إغفال الخلاف حول عدد من المواضيع المهمة.
ويتوقع مسؤولون أميركيون أن يطول التفاوض حول تفسير الفقرات الخاصة بالولاية القضائية على المتعاقدين العسكريين الذين يقتلون عراقيين، وقد يمتد إلى ما بعد ثلاث سنوات المقررة لانسحاب القوات الأميركية. وسيؤخذ أثناء ذلك بالقانون العسكري الأميركي. ولا يخفي الأميركيون عزمهم الالتفاف على نصوص الاتفاقية، وذلك بالاستناد مثلاً في حال شن هجمات على دول مجاورة للعراق الى المادة التي تخول حق الدفاع عن النفس. ويرفض العسكريون الأميركيون صراحة الالتزام بالمادة التي تنُصّ على إبلاغ العراقيين مسبقاً بالعمليات العسكرية، ويبررون ذلك بأن القوات العراقية مخترقة من قبل الإيرانيين والمقاومة العراقية والإبلاغ عن العمليات "يعني دعوة مفتوحة لشن الكمائن".
ويثير التشاؤم إعلان رئيس الوزراء المالكي يوم التوقيع على الاتفاقية "إن هذا اليوم هو يوم السيادة". فهذه ثالث مرة يُعلن فيها رؤساء حكومات الاحتلال المتعاقبة عن حصول البلد على "السيادة"! ونعرف الأرقام القياسية في النهب والفساد، التي أعقبت إعلان أياد علاّوي عودة السيادة للعراق، والأرقام القياسية في القتل والتشريد بعد إعلان إبراهيم الجعفري "استقلال" العراق. وكما يقول العراقيون "الله يُسترنا من الثالثة".
و"الثالثة" على الأبواب مع إعادة العراق نهاية هذا الشهر تحت طائلة "الفصل السابع". فرض "الفصل السابع" بموجب قرار "مجلس الأمن" عام 1990 العقوبات على العراق باعتباره دولة معتدية بعد غزو الكويت. ويشكل استمرار فرضه أغرب عملية احتيال تحت مظلة "الأمم المتحدة". إنه كصكوك الرق التي تربط العبد بمالكه، يجعل الثروات النفطية عرضة للحجز من قبل دعاوي تعويضات قد تبلغ تريليون دولار، بينها دعاوى تُحمِّل العراق مسؤولية التفجيرات في مدينة أوكلاهوما عام 1994 ونيويورك عام 2001. تفاصيل تمرير علاّوي والجعفري هذا الاحتيال يعرضها المهندس فؤاد الأمير في كتابه "حول الاتفاقية بين العراق والولايات المتحدة".
ولا قيمة قانونية لادّعاء المالكي في مؤتمره الصحفي أن الرئيس الأميركي الجديد أوباما سيلتزم بقرار "الفيتو" الذي أصدره الرئيس بوش لحماية الأموال العراقية المودعة في الولايات المتحدة من الدعاوى القضائية. لا يصدق هذا الادّعاء حتى أعضاء البرلمان العراقي الذين اكتشفوا قبل أيام من التصويت أن "الاتفاقية" لن تحرر العراق من "الفصل السابع".
هذه الحقيقة دفعت عضو البرلمان والمرشح السابق لرئاسة الحكومة مهدي الحافظ إلى الإعلان: "ليس هناك حكومة تحترم نفسها توقع على هذه الاتفاقية". وذكر الحافظ أن الحجز لن يقتصر على أموال العراق المودعة في البنوك الأميركية، بل يجعل من الصعب عليه بيع النفط، وتحويل المبالغ التي ستكون عرضة للحجز في المصارف من قبل أي دعاوى قضائية حول العالم.
وعلى الرغم من تغيير عنوان الاتفاقية مرات عدّة منذ بدء المفاوضات حولها قبل أكثر من سنة، إلاّ أن مضمونها بقي محدداً، عقلياً وجيوبوليتيكياً بقاعدة الاحتلال المشهورة باسم "المنطقة الخضراء". نوري المالكي تحدث في مؤتمره الصحفي عن "المنطقة الخضراء" بشكل عاطفي عكس مهانة المسؤولين العراقيين الذين يتعرضون داخلها للتفتيش من قبل الجنود الأميركيين. وفي فورة حماسية أعلن المالكي أنها ستعود إلى العراق الذي سيصبح كله منطقة خضراء. هذا الوعد لا يبشر بالخير عند الإطلاع على مادة "المنطقة الخضراء" التي تستهل خطوات التنفيذ، ونذكرها هنا لدلالتها الهزلية على قيمة الاتفاقية:
"عند بدء نفاذ هذا الاتفاق تتولى الحكومة العراقية المسؤولية الكاملة عن المنطقة الخضراء. وقد تطلب من قوات الولايات المتحدة دعماً محدداً ومؤقتاً للسلطات العراقية في المهمة المتعلقة بالأمن في المنطقة الخضراء، وعند تقديم مثل هكذا طلب تقوم السلطات العراقية ذات الصلة بالعمل بصورة مشتركة مع قوات الولايات المتحدة بشأن الأمن في المنطقة الخضراء خلال الفترة الزمنية التي تحددها الحكومة العراقية".
يصعب معرفة ما إذا كان مستعرب أميركي، أو مستغرب عربي، أو كردي صاغ عبارة "وعند تقديم مثل هكذا طلب"، أم كتبها شخص يعاني التلكؤ الذهني الذي نعانيه عندما لا نريد فهم معنى ما نكتب. وكيف نفهم عجز حكومة أنفقت مليارات الدولارات على أجهزتها العسكرية والأمنية والسياسية عن حماية خمسة أميال مربعة في قلب بغداد مسوّرة بحواجز وجدران إلكترونية مسلحة؟!
وهل يستطيع "مثل هكذا نظام" الاستفادة من الاتفاقية الثانية التي صادق عليها البرلمان؟ تحمل الاتفاقية اسم "الإطار الاستراتيجي لعلاقة الصداقة والتعاون بين جمهورية العراق والولايات المتحدة الأميركية"، وهي معنية بشكل أساسي بالعلوم والتكنولوجيا والاتصالات والطاقة والصحة والبيئة والاقتصاد والثقافة، أي المجالات التي تهم علماء العراق وخبرائه المتمرسين، والذين هاجر كثير منهم، أو سجنوا، أو اجتثوا، أو قتلوا. ولن يكون مصير الاتفاقية الإطارية في أحسن الأحوال أفضل من مصير الموارد النفطية التي يعجز النظام عن استثمارها، وبلغت في العام الماضي فقط 20 مليار دولار، حسب اعتراف وزير المالية "بيان جبر"، أو تتحول الاتفاقية، وهو الأرجح، إلى إطار لامتصاص ما ينمو من ثروات عراقية ذهنية ومادية.
وتدهشني نكتة عراقية توقعت الاتصالات الحالية بين جماعة الطالباني (الاتحاد الوطني الكردستاني) وجماعة الحكيم (المجلس الإسلامي الأعلى)، وذلك لمواجهة تعزيز الاتفاقية لنفوذ جماعة المالكي (حزب الدعوة). تقول النكتة إن الرئيس الطالباني أمر بتحويل اسم "قوات بدر"، وهي مليشيات الحكيم، إلى قوات "بيش تِمَّن"، واتحادها مع "بيش مركة"، وهي المليشيات الكردية، لتصبح "بيش تِمَّن ومركة". و"التِمَّن" باللهجة العراقية هو "الرز" و"المركة" هي "المرق"، وهذه "قوات رز ومرق"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق