الأحد، أغسطس 10، 2008

العراقيون و"حساب" الاتفاقية مع واشنطن

محمد عارف
مستشار في العلوم والتكنولوجيا

"بسم الله الرحمن الرحيم". بهذه العبارة المباركة يستهل عالم الرياضيات البرازيلي "هليو مارسيل بيريرا" قصة "الرجل الذي يحسب". تجري أحداث القصة في زمن المستعصم، آخر خلفاء الإمبراطورية العباسية في بغداد، وبطلها راعي غنم عبقري في الحساب. التقى راوي القصة، التي تحمل العنوان الفرعي: "مجموعة مغامرات في علم الحساب"، بالراعي على ضفاف نهر دجلة قرب سامراء، وسمعه يردد مع نفسه: "مليون وأربعمائة وثلاثة وعشرون ألفاً وسبعمائة وأربعة وخمسون". ويسرح صامتاً وهو يتكئ برأسه على يديه، ثم يستأنف العد: "مليونان وثلاثمائة وواحد وعشرون ألفاً وثمانمائة وستة وستون".
وعندما استفسر راوي القصة عن سر هذه الأرقام، قال الراعي إنه تعلّم عدّ كل ما يراه من كثرة عدّ أغنامه خشية ضياع إحداها. وذكر أن الأرقام التي كان يرددها تحصي عدد الأوراق والأزهار على أغصان الأشجار المحيطة وأسراب الطيور المارة وأفواج النحل.
وتثير البهجة هذه الأيام مهارة باحثين عراقيين يحسبون الاتفاقية المزمع عقدها بين بغداد وواشنطن كراعي الغنم في رواية "الرجل الذي يحسب"، والتي تعتبر من أمتع قصص الأدب العلمي العالمي. فالاتفاقية التي كان ينبغي التوقيع عليها الأسبوع الماضي لا يُعرف ما إذا كانت معاهدة، أم مذكرة تفاهم، أم بروتوكولاً، أم ترتيبات أمنية. ولا يدل على مضمونها سوى بيانات صحفية صدرت عن "البيت الأبيض" و"المنطقة الخضراء" تحدد مبادئ التعاون بين البلدين في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية.
وتكشف معظم الكتابات المناهضة للاتفاقية عن تغيرات في خريطة التفكير السياسي للعراقيين الذين كانوا قد اتخذوا مواقف توافقية من الوضع الراهن، وبعضهم رحّب بالدستور، أو شارك في الانتخابات، وبينهم مسؤولون سابقون في حكومات الاحتلال. علي علاّوي، أول وزير للدفاع والمالية بعد الاحتلال قارن الاتفاقية في مقالة له في صحيفة "الإندبندنت" البريطانية بمعاهدة عام 1930 التي فرضها المحتلون البريطانيون على العراق. وتوقع علاّوي أن تثير الاتفاقية مع واشنطن، على غرار معاهدة 1930 "التي سمّمت السياسة العراقية"، حركات تمرد وعصياناً وانتفاضات وانقلابات. وهذا تغير غير متوقع في موقف علاّوي الذي كان قد وقّع أربع اتفاقات اقتصادية مع واشنطن لم تعرض على البرلمان. مع ذلك فالاتفاقيات قيد التنفيذ، حسب المهندس رائد جرار، المقيم في واشنطن العاصمة. والمهندس جرار أول من نبّه إلى خطر الاتفاقية الجديدة مع الولايات المتحدة، وحذّر من أنها ستنتهك "جميع البيوت العربية"، وتستخدم نفط العراق في دعم دخول الآلة الحربية الأميركية العواصم العربية التي أنقذها "صمود المقاومة العراقية". وكشف جرار المشهور بمُدونته الشائقة بالإنجليزية في الإنترنت فضيحة إخفاء "أشرف قاضي"، ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، مذكرة 144 نائباً عراقياً يطالبون "مجلس الأمن" بوضع جدول زمني لانسحاب قوات الاحتلال. "أشرف قاضي"... يا للمصادفة في هذا الاسم. ذكر ذلك المهندس صائب خليل، المقيم في هولندا، والذي ضرب الرقم القياسي بكتابة 20 مقالة ضد الاتفاقية، وعنوان آخر مقالة له: "أسبابي الأربعون لرفض المعاهدة"!ويبدو من النصوص المتسربة للاتفاقية، أن الأميركيين وأعوانهم لم يدركوا حجم كارثة الاحتلال التي سيذكرها التاريخ عبر آلاف الأعوام. فأيُّ اتفاقية تدعم دستوراً رعته دبابات المحتلين، أو تحقق مصالحة وطنية في بلدٍ قطّعته حواجز مسلحة سياسية وإسمنتية سابحة في الدماء؟ وهل عرفت السياسة العالمية ادّعاء أرعن من تعهد الاتفاقية بتعزيز المكانة الدولية لعراق حوّله المحتلون إلى مستعمرة بائسة؟ وكيف تقوم اتفاقية للتبادل الثقافي والتعليمي والعلمي على جثث مليون قتيل، وعذابات أربعة ملايين لاجئ ومشرد؟ وما قيمة التزام الغزاة بردع العدوان على ضحية عدوانهم، أو توقيع اتفاقية لمكافحة الإرهاب مع مسؤولين عن أشنع عملية إرهاب في تاريخ المنطقة؟ ومن يثق بتعهد أميركا إنشاء قوات مسلحة في العراق، وهي التي حلّت جيشه، وفتكت بقياداته، وسوّت بالأرض معسكراته، ومعاهده، وصناعاته العسكرية؟وبعد عقدين من خراب الحصار والاحتلال الذي أنزلته واشنطن بالعراق، ما جدية تعهدها بمساعدته في إنشاء مؤسساته الاقتصادية وبُناه التحتية؟ وكيف تعمل الاتفاقية على إلغاء ديون العراق الخارجية، وإلغاء تعويضات الحروب السابقة، وقد زجّت بالبلد في حرب الثلاثة تريليونات دولار؟ وهل يغير ذلك حظوة التعامل التي تتعهد واشنطن بإيلائها للعراق، ووعدها بأن تخصّه بالظروف التشجيعية والتفضيلية في السوق العالمية؟ وهل يشمل تعهد واشنطن باستعادة ثروات العراق المهربة إلى الخارج، أمواله المحتجزة في البنك الفيدرالي الأميركي؟ هذه الفضيحة كشفها البحث عن خبراء قانونيين دوليين يساعدون في إخراج الأموال العراقية، حسب ادعاء "علي الأديب"، القيادي في "حزب الدعوة" المشارك في حكومة الاحتلال.
بهذه الحسابات يضاهي الباحثون المناهضون للاتفاقية "الرجل الذي يحسب" عندما سأله وزير الخليفة المستعصم أن يعد بسرعة قطيع الجمال في باحة القصر. أجاب الرجل: 257. وأوضح للوزير الذي دهش من صحة عدّه الخاطف للجمال، أنه تجنب الطريقة المضجرة في عدِّها واحداً واحداً، بأن أحصى عدد أخفاف الجمال، ثم آذانها، وأضاف رقماً واحداً إلى المجموع البالغ 1541، وقسم المجموع على ستة فكان الحاصل 257. سأل الوزير عن سبب إضافة واحد إلى المجموع، فقال "الرجل الذي يحسب": لاحظت أن لأحد الجمال أذناً واحدة!
ملاحظات ساخرة مماثلة تسجلها دراسة المهندس المقيم في بغداد فؤاد الأمير، والذي كان قد سرّب مسوّدة "قانون النفط" وفضحها على صعيد عالمي. ولا يعرف سوى أصدقاء المهندس الأمير أنه كتب دراسة من نحو 34 ألف كلمة عن الاتفاقية الجديدة، وهو مفجوع بوفاة حفيده "يحيى". تفضح الدراسة حيثيات "البند السابع" الذي يدّعي حكام "المنطقة الخضراء" أن الاتفاقية ستحرر العراق منه. و"البند السابع" المنصوص في ميثاق "الأمم المتحدة"، كان قد اعتمده قرار مجلس الأمن رقم 678 عام 1990، وأجاز بموجبه استخدام القوة المسلحة لإخراج العراق من الكويت. وليس هناك عملية احتيال مفضوحة كالادعاء بأن امتثال العراق لجميع قرارات مجلس الأمن بهذا الصدد، وعددها خمسون، لم يحرره من "البند السابع".
صادق على الادعاء بالتوالي إياد علاوي، وإبراهيم الجعفري، ونوري المالكي، الذين رأسوا حكومات لا وجود لها تحت "البند السابع". فماذا بقي من سلطة في العراق تحت "البند السابع" بعد احتلاله عام 2003، وصدور قرار مجلس الأمن 1483 الذي اعتبر الولايات المتحدة وبريطانيا "دولتين قائمتين بالاحتلال"؟ وإذا كان العراق تحت "البند السابع"، أي ناقص السيادة، فكيف يحق له الدخول في اتفاقية مع الولايات المتحدة؟ يطرح السؤال الدكتور "وليد سعيد البياتي" المقيم في لندن. وأكاد أسمع نبض قلب المهندس الأمير في بغداد وهو يصف احتيال "البند السابع" بأنه "استصغار للعقل العراقي"، وتخريف من قبل من يردد ذلك، جهلاً أو علماً. وإذا كانت "الحالة" في العراق تتطلب أن يكون تحت "البند السابع"، وهو أمر محتمل، فإن المحتل هو الذي سيكون تحت طائلته.

الخميس 07 أغسطس 2008 ا


http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=38717

ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار