الأربعاء، أغسطس 27، 2008

بـي ففتـي تـو (B52)

د.مي خالد آل طه
كان لدي قطة سوداء, لا تأكل ما أطعُمُها إلا عندما أغيب عن نظرها, وكانت في آذار, تحتضن قططها الصغار, ليل نهار... وتتخندق معهم-بين جذور نخلتنا البرحية- لتحميهم من غارات الهررة. وكنت أضع لها بعض الطعام في صحن بائس قرب باب المطبخ... تارةً تأكل منه... وتارةً تلعب به... وأحياناً تنامُ فيه.
وفي تلك الأيام كانت تغير علينا طائرة الـ(B52) العملاقة... تقلع بعيداً من هناك!!
لان لا مدرج لها لتغير علينا من الأهل والجيران!! وقد أتقنا بسرعة تقدير موعد الغارة؟! بستة ساعات بعد إعلان إذاعة "ساوا" أن الـ(B52) قد أقلعت... وكان الكثير الكثير من الناطقات والناطقين بالعربية يزّين للـ(B52) أهدافها, و زعيق أبواقهم قد أدمن وأتقن وأستلم ثمن وقودها وثمن التضليل علينا وعلى التاريخ...
وصلت الـ(B52) إلى بغداد بعد أن مرت بالموصل وأعطتها نصيبها مما تحمل, وقبل القصف كنا نسمع أزيزاً في السماء مثلهُ كمثل فحيح ملايين الأفاعي, تنفث الحقد من سمومها, كم أكرهُ الحقدَ؟؟؟ وأكرهُ أن تحركني أحقادي مثلهم, لكن الحقد ينتشرُ هنا مثل عدوى "الإنفلوّنزا" وهو اليوم صار بطلاً منتصر والحب باتَ ضعيفاً منكسر!!
هل سينتصر الحقدُ على الحب؟! ... هل سينتصر الباطل على الحق ؟؟
في هذه اللحظات كل شيءٍ في الخارج لونه احمر... أحمر مرعب... يقولون أن الدروع قد حركت رمال الصحراء فاستحالت الدنيا إلى لونٍ واحد, هو الأحمر الحاقد.. لا يغادر ذاكرتي ذلك اللون ولا ذلك اليوم... يومَ بكـت بغـداد؟! وأخوة يوسف يزعقون ويزعقون, كي لا يسمعَ بكاء بغـداد!!
بدأ القصف.. بدأ القصف.. تدور وتدور الـ(B52) فوق رؤوسنا تفتح أبوابها فحسب فيحال كل ما تمر به من شجرٍ وبشرٍ إلى أطلالٍ وأشلاء, هذه سادتي هي الحرب النظيفة الذكية. عجبي هل بيتنا من طابوق إم من أسفنج؟! كل شيء فيه يهتز, والحيطان تمشي وتتكلم, تكاد تطبق علينا أقفالها..! كم كان صعباً عليَّ اتخاذ القرارات!! في هذه اللحظات!! في أية حجرة من حجرات الدار سأضعُ فيها الصغار!! لا ليست هذه الحجرة لأني لم أُلصق زجاجها جيداً.. لا ولا تلك التي تحت الدَراج!! يا ربي أين سأضع الصغار...!؟ وقد اتخذت القرار...!؟ وهم يراقبون ملامح وجهي... وملايين الأسئلة في رأسي... كم كان صعبٌ علي أن أخرس ملامح وجهي, وكل أحشائي من الداخل ترتجف وتتساءل. ترى هل أحس الصغار بثورة أسئلتي وبأحشائي المرتجفة !؟ لا لا أظن... أعتقد أني أتقنت دور القوية, وكم قوة أعطيت من ضعف محتجب, وكم كبرياءٍ مثلت من هزيمة ترتقب. كم أكره الهزيمة.. كم أكره الهزيمة.. ما أضعف الذين يشيعونها في النفوس!! ماذا أفعلُ يا ربي! أنا لا أتقنُ دور الضحية! أستغرب وأستغرب... كيف يلعبون بإتقانٍ لعبة الضحية.
سألتني أبنتي الصغيرة : ماما .. أريد قضاء حاجتي!! .. لا حبيبتي ليس الآن "بعد شوية نروح للحمام"... ماما نحن في الحمام!! ... ألتفت حولي "أي والله أحنة بالحمام" !
لماذا كل شيء في تلك اللحظات يبدو صغيراً ويبدو ضيقاً ... وقد وضعت في الحمام (الملجأ) حصيرة للجلوس عليها وبطانية لنلوذ بين ثناياها, وانتزعت زجاج الشباك اليتيم وألصقت نايلوناً بدلاً منه,ومهما كنت حريصة على لصقه لكنه يفلت في تلك اللحظات
(من العصف) ويُحدث صوتاً وطقطقةً رتيبة لا تريد أن تغادر ذاكرتي, وفي زاوية الحمام وضعت خشبة صغيرة وفوقها خمس أو ست حقائب صغيرات هي أمانات أخواتي وبعض الجيران ... فيها حجج دورهم وما تبقى لديهم من الحصارات... من فتافيت المصنوعات ومكسرات المدخرات...!! كانوا قد تركوها عندي قبل مغادرتهم العراق إلى سوريا...
وعندي كيس أظنه كان كبيراً أضع فيه عقد (عگد) صغيرة فيها (نمنميات) من (حامض حلو) وملبس وحمص يابس .. لأشغل بها فم الصغار في تلك اللحظات كي لا تصطك أسنانهم على بعضها البعض. وقد ملأت (البانيو) المغطس بالماء تحسباً لانقطاعه أو تحسباً لتلوثه من ضربة كيمياوية. إلا إني لحد الآن لا أتقن منع نزيف ما اختزنه من الماء أو من أشياء أخرى... وتحت المغسلة وجزء من أثاث وثقافة الملاجئ رشاشة (كلاشنكوف) كاملة العتاد مقفلة التسديد... لم أطلق منها أطلاقة واحدة لليوم..!! وأحرص على تزييتها وتفكيكها بين الحين والآخر .. كل هذا موضوع في مساحة لا تتجاوز (2×3) متر ونحن خمسة محشورين بينها وبين المجهول... لكن الصغار ما زالوا يطلبون قرباً أكثر وأكثر ... اقتربت واقتربت حتى تكومنا على بعضنا في بضع سنتمترات ...
كل جزءٍ فينا ملتصق ومتشبث بأجزاء الآخرين... ومع كل هزة في الدار وكل دوي أضغط بشدة أكبر على أياديهم ..!! لم أحتاج يديَّ طيلة حياتي كما أحتاجها الآن ..!!
ولم تكن مطلوبة وغالية كما في هذه اللحظات؟! والحوار الوحيد الذي يدور والصوت الوحيد المسموع هو تسارع نبضات قلوبنا وصوت أنفاسنا الملهوفة للمزيد والمزيد... ومحاولاتنا لكم اهتزاز شفاهنا وبعض الكلمات مثل ماما ماما وأنا أقول يا الله يا الله ... نحن عبيدك, لم أكن أعرف من قبل أن كل خزين الكلمات يخرس في مثل هذه اللحظات ... وتلتصق في الفم مفردة واحدة .. كان صوت المأذنة يكسر حاجز الصمت فعندما يشتد القصف يكبر المؤذن ... ليس الآذان الذي نعرفه كاملاً ...!! لكنهُ كان يقول "الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر ولله الحمد" ويظل يعيد ويعيد حتى يخف القصف ... وأحياناً يُقصف الجامع وتصمت المأذنة ويشيع الصمت ثانية بيننا ...
وفي هذه الأثناء وبينما ترتعد الجدران وطقطقة النايلون المقيتة وصفير العصف وصوت تساقط الأشياء من مواضعها وتكسر الزجاج هنا وهناك في الدار ...
سألني ولدي وهو يحاول فك رباط (قيطان) حذاءه ليدخل قدمه تحت البطانية..
"ماما كل هذا من طائرة الـ(B52) وحدها ؟!" ... لا سمعتهم يقولون أنها تغير علينا بحماية سرب من الطائرات المقاتلة (F16) ... سألني ثانيةً : لماذا؟ الا تستطيع أن تحمي نفسها وهي الـ(B52) .. ؟! ... "لا أدري أسكت هسه" ... صحيح كيف يحتمي الأقوياء بالصغار؟! وغيرت الموضوع على ولدي "علي" ماما أرجوك لا تنزع الحذاء ...! كنا نبقى بقيافتنا الكاملة تحسباً للفرار في أية لحظة. ليس من الـ(B52) بل ممن هم أقسى منها ؟! ... إذ كانوا بعض الغرباء يجيبون الطرق والأزقة .. منهم من كان يتقن العربية !! لكني لا أظنهم عرباً !! لا أدري لا أدري الآن! ربما كانوا عرباً أو مستعربون؟! ... كانوا مزودين بتقنية الـ(GPS) وهي جهاز إما على شكل ساعة مميزة أو كمثل المحمول يحددون به هؤلاء الغرباء محاور الأهداف بمجرد الضغط عليه, والأهداف هي أي مظهر من مظاهر المقاومة, حتى إني رأيت واحداً منهم بأم عيني حدد محاور هدف هو ما يقارب 60 جندي كانوا يشربون الببسي قرب كشك (أبو أسامة) للمشروبات وهم في طريقهم لأحدى مواضع القتال.
رن الهاتف, وهو في المطبخ ونحن في الملجأ (الحمام) –لم تقصف بدالة الصليخ في الأعظمية- لا في (1991) ولا في (2003) ... لم تصدق (أولبرايت) في وعدها في إرجاع العراق للقرون الوسطى؟!! أم تراها صدقت!! مازال الهاتف يرن, مصمم هوعلى أن أرد عليه!! قلت لهم : "هسه أرجع أخاف بيـبي من سوريا" وبين الركض للمطبخ ونداء الصغار ورنين الهاتف وصوت القنابل والصواريخ وصوت التكبير في المأذنة وأهتزاز الأرض تحت أقدامي وقبل أن أرفع السماعة سمعت صوت خربشة على باب المطبخ الخارجي(السيم) ...
رفعت السماعة " الو الو ... " ... "أيوه يا عراق أنا محمود من مصر" ...
اجبته مستغربة : عزيزي غلط ..!! ... "لا .. لا .. إحنا قلوبنا معكم"
فهمت أنه يتصل عشوائياً بأي رقم في العراق وليس بشخص بعينه.
أقول لك اليوم ... عزيزي محمود وعساك تسمعني .. تدري ما الذي فعل بي هاتفك في تلك اللحظات؟! كنت أمثل رفع رأسي أمام الصغار!! وعندما سمعت صوتك ما عدت أمثل رفع رأسي بل أتقنت رفعهُ.
ما هذه الخربشة على باب المطبخ؟!! ... يا ربي أنها قطتي لم أعهدها من قبل تخربش على الباب؟! ... فتحت الباب وفي هذه اللحظة.. وقبل أن أضع أي طعام لها دخلت قطتي المطبخ بأسرع من لمح البصر ولاذت تحت الثلاجة هناك... استغربت كثيراً لم تدخل هذه القطة يوماً الدار.. ولم تكن تأكل إلا عندما أغيب عن نظرها ولم تترك صغارها إلا قليلاً عندما تأكل... تساءلت في نفسي لماذا كانت تخربش هذه القطة على الباب ؟؟!
وماذا كانت تريد إذا لم تكن تريد الطعام؟؟! وماذا تحتاج القطط في العراق!! سوى لبقية طعام وساعات منام؟! أم تحتاج أكثر !؟
وا عمـرا ... وا عمـرا .. الذي همه هم النعاج في العراق .. من سيكون همهُ هم القطط في العراق!


*** *** *** ***

ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار