الاثنين، أكتوبر 13، 2008

صوفيات الهمايون



كتابات أبو الحق
ثاني عشر من تشرين أول
2008






فاتح هو شاب تركي , مع كل زيارة مني لمخزن ميفيستو , يتطوّع فيتخيّر لي ما يراه مناسبا لذوقي الإيكزوتيكي , من ألبومات موسيقية تركية , لا ترى الكثيرين من زوار مخزنه في إستقلال ستريت يطلبونها ,ألبومات لفنانين خصوصيين جدا مثل إلهان شيشين وسلسلة شبيه الأحلام ( هايال جيبي) , هو بات يعرف ذوقي جيدا , فأنا لا أبحث عن إيقاعات راقصة ولا عن فانتازيا رائجة , إن ما يعنيني هو الموسيقى التي تغير المزاج لما تبقى من العمر , بشكل بلاستيكي , وليس لفترة محدودة من الزمن وفق النمط الإيلاستيكي , الموسيقى التي تحكي القصص بدون كلمات , و تغير المزاج بشكل إيجابي , لكن آخر مرة زرت فيها مخزن فاتح , كانت لديه مفاجأة عراقية تنتظرني , ألبوم " صوفيات الهمايون " ...للمبدع أنور أبو دراغ...... وللحق أقولها, فقد نفرت أول الأمر من إقتراحه , فأنا من أنصار التجديد والأستزادة , لكن إلحاحه أن أعطي الفكرة فرصة جعلني أوافق ..

..........إختار فاتح أن يسمعني القطعة الأخيرة من الألبوم , "مقام لامي" , إختارها دونا عن بقية القطع السبع متعمدا, فقد كانت مستودعا من العتب والأسى الذي تشتهيه الروح رغم إيلامه وتجريحه , ربما تعلمون كم هو مريح شعور تجريح الورم وإخراج الألم المختزن بداخله , ...رفع الصوت قليلا وهو يمعن النظر في عمق عيني يستقريء تقبلي المرتقب , وأنا لم أملك أن أمنع دموعي من الأنسياب حال سماعي نشيج الجوزة تلك , لحظتها لم يتكلم الفيضان بداخلي ولم يعرّف بأسبابه , لكنني إضطررت لمغادرة المحل لدقائق تهربا من نظرات البائع , إذ أنّى لغير صاحب الألم أن يعرف أيّةّ نار تحرق حجيرات القلب ؟؟ ....... لقد أطلقت الموسيقى ماراثونا من الذكريات والمحاسبة الشخصية داخلي , كما هو الحال في صفحات الأنترنيت عندما تنقر عبارة زرقاء فتفتح لك هايبرلنك منفصل ومتصل في نفس الوقت , تجاوزت الدموع المتفايضة مآقي العيون تدفعها ذكريات ألف وجه عزيز وألفي ذكرى ,مع كذا سبب آخر للبكاء على وطن ولدنا إخوة أشقاء نحمله لوحا زجاجيا على رؤوسنا , فخذل المشوار بعضنا فيما أمسكنا به جاهدين , تكسّرت الأمانة المحمولة وملأت الجروح أيادينا وهي تجتهد لتبقى حاملة نصيبها , كذا ضاعت الأمانة فنطق القلب وحرّك الدموع , فيما حروف المعذرة بين الشفاه حبيسة ,... و ذكريات أخرى لرجال بادوا على قلة بغدرة العدو الصائل وكثرة الضباع المهاجمة , رجال حفروا حروف العراق على شغاف قلوبهم , ولم تلههم دنياهم وعوائلهم عن ذلك , فقد جعلوا حب بلادهم رديفا وصِنوا لولائهم لدينهم ولخالقهم , ماتوا بكل طريقة هناك للموت , والعراق عنهم لاه وغافي ... رحمات ربي على أرواحهم جميعا ,...
.... أخي أنور أبو دراغ , أنا أعتذر لك عن إدراك متأخر بعض الشيء بروعة نتاجك الفني , لكن كما يقولون خارجا " لا ضير من التأخير قياسا بالتغيّب "...better late than never ... بالنسبة للغير , ربما تكون قطعة موسيقية تذكرهم بأمسيات يوسف عمر و حفلات محمد القبنجي , لكن بالنسبة لي , هي سمفونية مصغرة للوطن القتيل ...كذا تكلم الأداء...كذا سمعته ..

يعزف أنور أبو دراغ على الجوزة , فيجعلها تغادر صوتها البدائي , ذاك الذي أدمن شعّوبي على إسماعنا إياه , تغادر ذاك الصوت المعدني لتلد نغمة معدنية هجينة , ممتزجة مع وحشية الأوبو و سَكينة الفلوت , يغازل أوتارها فيعصر ما بها من سحر , وتعتصر هي ما في قلوبنا من تأوهات , و قد لا يعلم هو كم من الألم اللذيذ توحي موسيقاه لنا نحن الشهود على جريمة كل يوم , نحن من ننشد ترديدا خارجيا نظيرا لنشيج تعزفه نياط القلب .. إذ ما هي غاية كل عازف وشاعر في نهاية المطاف , بعد الشهرة والتصفيق والمال , سوى البحث عن النصف المفقود , النصف المكمّل الذي يحسن الأستقبال من دون كثير تفكّر...
يا صاحبي , نحن هنا نرقص على الجمر الملتهب , تصلينا النار فنصلى ولا نصطلي , ولا شيء غير هذه الموسيقى العراقية الأصيلة يناسب المشهد ويسكّن لواعجنا , فقد إشتد بنا الكرب من كثر ما نرى ونسمع , ........نريد أن نسمع هذه النغمات التي عرفناها في عهد النأنأة ذاك , في سني الصغر قبل إتقان نطق الحروف , نريدها أن تعيش وتحكي لمن يعقبنا كم من الحياة يربض تحت الطين على شواطيء الفرات ودجلة , حيث الموت والحياة يتعاوران , و كم من الجمال يكمن في العيون السومرية , فهذا وطن متواضع الجمال قياسا لما يجاوره , لا بأس من الإقرار بذلك , لكنه مثابة لنعم جَمّة من نِعَم ربّ العباد , كانت أكثر من إستحقاقنا لها مهما تبرمنا , وهو وطن مملوك لنا بحق الولادة ومسقط الرأس وجذور العائلة , وبحق مضاف هو التقبل الحِمل و فرط التحمّل , مهد كبير متاح من دون مذلة أو تهافت على أبواب الإقامة ودوائر الهجرة في كل بلد ..نريد أن نحس بهذه النغمات تتحرك وتنطق بالحياة , فالموت طال كل مظاهر الحياة وأجهز عليها ..

هذه الجوزة الصغيرة , الآلة الموسيقية العراقية التي لم تستهوني أبدا طيلة حياتي , رغم أنّني قابلت سائحا ألمانيا في الستينات جاب أرض العراق محاولا أن يتحرى سرها وسحرها فوصل إلى قدش والعمادية وهو يرتجي أن يلقى من يشرح له شيئا عن أصولها ويعلمه كيف يقاربها , ولسوء حظ الجوزة لم يكن أنور أبو دراغ موجودا وقتها , ومن سوء حظ السائح الألماني أنه لم يعاصر أنور أبو دراغ ... من يصدق أنّ هذه الجوزة تحكي الألم العراقي بهذا الجمال و تنعش ذكرياتنا على البعد , فتعمل نغماتها الحزينة كحبل سرّي يمتد إلى عمق مشاعرنا ليعيد إرتباطنا برائحة الطين الحرّي , برائحة عطّاب جريد النخل على ضفاف النهر , فيجدد بيعة عقد الحياة مع تربة الأرض , يا لروعة الذكريات تلك , لحن "على شواطي دجله مر" , وذكريات أمسيات الجرادق على الجرف عند جسر الصرافية , وسماور الشاي يتسيّد الجلسة , يوم كانت الطائفية حبيسة القمقم , والمحبة مهما بدت غافية , فهي هناك لمن أدرك سرها ونطق بلهجتها..

كثيرة هي المرات التي إستمعتُ فيها إلى أغنيات عزفها الرجل هنا , "جي مالي والي" , و" جا وين أهلنه ", إستمعت إليها من عباس جميل ومن وحيده خليل , وكم سمعت موسيقاها من توزيع روحي الخمّاش , لكن الطريقة التي قدمهما بها أنور أعطتهما حجما وهالة ناطقة لتظهرا كعمل مختلف تماما عن الأغاني الأصلية , هذه أول مرة تأسرني موسيقى عراقية بتميز يبقيها على مسافة متساوية من الجالغي البغدادي ومن التوزيع الموسيقى الحديث , ...تسمع نشيج الجوزة فيتراءى لك حزن عمر كامل, متسلسلا كصفحات الكتاب , تذكر وجوها عراقية بائدة في أرشيف الأيام السوداء - الحمراء للشيوعيين تلك , ...تذكرُ محاكما ظالمة تعيدك محاضرها لعهد محاكم التفتيش, في بلد يفخر بمسلة حمورابي من دون أن يطبق أيّا من قوانينها , و تسترجع صورة مخلوق بشع الهيئة كالطاعون يطوف الشوارع , فلا يخلّف وراءه سوى شريطا كثيفا من الدم المراق بلا وجه حق , و أطفال ونساء يتراجفون من رعدة الرعب و هول التيتم والترمّل , لم يكن هناك في كل تلك السنين أي " مطر مطر مطر ", ربما كان السياب ثملا فلم تخطر بباله " دموع دموع دموع " , فهي كانت " شنق شنق شنق " , أو ربما كانت " سحل سحل سحل " !! , وتتراءى لك تلك الصور التي حواها كتاب " كي لا ننسى" , جثث عراقيين تم شنقهم وسحلهم وتقطيع أطرافهم بكل وحشية, في كركوك والموصل , نصف قرن قبل أن تعود رجالاتها من الرفاق الحمر , تحت مظلة الحماية ذات الخطوط والنجوم , كم مرت كوابيسها على بالي وانا أصغر من أن أستوعب لماذا وكيف , وتعاودك الظلمة تلك وأنت تتساءل بعد كل هذا العمر للمرة المليون , لماذا ؟؟ لماذا يا شعب العراق ؟ الا ترتوي النفس من الدم ؟؟ ألا تشبع الروح من الأنتقام ؟ لم القسوة المفرطة تلك ؟؟ متى نعرف سلام الروح ؟؟ متى نترك الكراهية ونعلي المحبة ؟؟ متى نفهم لم صلاح الدين عفا , وقبله الأمام بالعقوبة الشرعية إكتفى , أهي لعنة مؤبدة أم متلازمة للتخلف والتكفير والطغيان والطمع ؟؟ لم ليس للفرح مقعد شاغر ؟؟ لم أمد الفرح لحظات فيما عمر الحزن سنوات ؟؟ لم الدمعة واللطم على الرأس هي الصورة المستمرة دوما ؟؟ إلامَ ينتهي كل ذاك النحيب ؟؟ هل له من مآل أو مثابة ؟؟ وأين تستقر مسارات كل تلك الدموع ؟؟

أنور أبو دراغ شاب من مواليد السبعينات , بينما شعّوبي عازف الجوزة في الجالغي البغدادي أيامنا قد تجاوز السبعين , إن كان حيا لا زال , أنا لا أرى صديقنا أنور إلا قد أحسن صنعا إذ خرج وتمكن من ممازجة أذواق أخرى بالطراز العراقي القديم , ليخرج بهذا المزيج الرائع من عزف الجوزة والعود والأورغ والكَيتار , فالموسيقى التي تنثال من بين أنامله ما كان لها أن تكون هكذا لو بقي بالداخل , لكان حاربه الف محارب من رجال الموهيكَان , ممن لا يستعذبون هذه الحلاوة المُحدثة , فقد ألفوا انماطا قديمة لا يريدون أن يغادروها أبدا , ربما كنا جميعا أشبه بطفل تَعَوّدَ الالعاب ومكعباته الملونة دوما قربه , فبرم بها, ويوم أن سحبوه بعيدا عنها أوحشته , فبدأ يرى جمالها على البعد أكثر , ونسي كم كان قد ملّ مناظرها, وكذا يبدو العراق اليوم بعين أبناءه وهم يرمقونه من خلف بضعة بلدان وراء الحدود....ربما إختلط الشوق في عظامك يا صديقي بالسحر التركي و بأنغام مدائح المولوي , فإرتقيت بالفن الذي ورثته عن منير بشير إلى درجات أعلى ..

شكرا على لذة الألم يا إبن العراق , المقام اللامي في آخر الألبوم أبكاني وفجّر مخزون الألم الكامن داخلي ,..." مرّوا بينه من تمشون" ... ومن قبله تلك الأخرى , " جيمالي والي , بويه إسمَ الله ,... بين الجرف والماي يا بابا ..." , وأنا غادرت الجرف وبقيت تحت رحمة أمواج الماء , لقد جاءت على الجرح كما نقول , ونطقت بما تعجز الكلمات مني عن وصفه ..
...أنت تقف على الضفة الأخرى من نهر العراق , مع من يصنعون الصفحات البيضاء , ويثبتون للعالم أنه مهما قست أنواء العراق وأجواؤه عليهم , فهم دوما أهل للإبداع والتميّز ....طالما أبقوا التعصب بعيدا عن عقولهم وقلوبهم ..

أدناه رابط لموقع يعرض تاريخا مصورا بالأبيض والأسود لبغداد , تاريخ طاعن بالقدم , لمن يستطعم ألم النوستالجيا , مع عزف لقطعة " إنتظار" لفناننا الكبير , أنور أبو دراغ ....تمتعوا به إن رغبتم , ولو أن جودة الصوت لا تضاهي مستوى تسجيل الإسطوانة ..

ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار