ملاحظات لابد منها لأولي الشأن!
شبكة البصرة
الدكتور أكرم عبدالرزاق المشهداني
نشرت صحيفة الشرق الاوسط اللندنية مؤخرا خبراً عن استعداد مجموعة من الفنانين العراقيين البدء بتصوير مسلسل تلفزيوني من 30 حلقة يتناول شخصية اشهر سفاح في تاريخ بغداد الحديث خلال القرن المنصرم وهو الشهير بـ"أبو طبر"، والذي تمكن من بث الرعب في نفوس البغداديين أوائل سبعينات القرن الماضي (1973-1974). حين شهدت عدة مناطق من بغداد وقوع سلسلة من الجرائم المتماثلة الغامضة باسلوب واحد إتسم بالقتل الجماعي والتمثيل بالجثث.
ابو طبر لم يكن يستخدم طبرا وانما قطعة حديدية "هيم"
يقول الخبر المنشور (وقد حصل هذا السفاح الغامض على لقبه لأنه كان يستخدم آلة الطبر الحادة التي يستعملها عادة القصابون في ارتكاب جرائمه وقتل ضحاياه من دون ان يترك أي أثر للتعرف عليه، مما أطلق العنان لخيال العراقيين في وصف هذه الشخصية))... وهذا خلاف الحقيقة فبالرغم من ان الناس تعارفت على تسمية الفاعل "أبو طبر"، إلا أنه ثبت في التحقيق انه كان يستخدم "هيم حديدي"، وليس طبرا كما يشاع ويعتقد، لكن قامته الضخمة وقوة عضلاته جعلته يتمكن من الاجهاز على ضحيته بضربة واحدة من قطعة الحديد التي يحملها ويحسن استخدامها، وتترك اثراً على الراس كانه أثر سكين (او طبر)، فتمّت تسميته بابي طبر في حين انه لم يستخدم الطبر البتة. وبعد ان بث التلفزيون الرسمي العراقي آنذاك اعترافات المجرم حاتم كاظم هضم الشهير بابي طبر، ومن معه، سيق الفاعلون الى حبل المشنقة ونفذت فيهم احكام الاعدام الصادرة عن محكمة الجنايات (الكبرى آنذاك).
"البغدادية" تنتج المسلسل وتسعى لكشف الاسرار
وتتبنى قناة البغدادية انتاج المسلسل الجديد الذي قال عنه السيد قاسم الملاك مدير الدراما في القناة المذكورة وهي التي ستعرض هذا المسلسل ان «مسلسل ابو طبر سيكون واحدا من الانتاجات الضخمة على صعيد الدراما العراقية وسخرت لانتاجه عوامل كبيرة ليكون بمستوى فني متقدم». وقال المخرج الفنان مقداد عبدالرضا ان «شخصية ابو طبر راسخة في الاذهان منذ ذلك التاريخ والى الآن وهنا نسعى لاعادتها والكشف عن اسرارها التي ظلت مخفية عن الناس». وأضاف عبد الرضا المخرج الاذاعي المعروف الذي يخوض اول تجربة اخراجية على صعيد الدراما التلفزيونية: «سيقوم بتأدية ادوار هذا العمل الدرامي عشرات الفنانين العراقيين في مقدمتهم عبد الستار البصري ومناضل داود وسها سالم وليلى محمد ورائد محسن».
وكان مقداد عبد الرضا صاحب الشخصيات الشهيرة في العديد من الاعمال الدرامية التلفزيونية العراقية، قد أخرج عددا كبيرا من الاعمال الاذاعية منها مسلسل المتنبي للكاتب عادل كاظم والجواهري ومسلسل ابو نؤاس للكاتب علي حسين.
وأشار المخرج الى ان «عجلة التصوير ستبدأ في الدوران بعد انتهاء شهر رمضان المبارك»، من جهته فإن كاتب المسلسل علي حسين صرّح لوكالة «فرانس برس» ان «شخصية أبو طبر ستعود عبر مسلسل تلفزيوني يقع في ثلاثين حلقة، حيث يسلط الضوء على هذه الشخصية التي اثارت الهلع في نفوس البغداديين خلال السبعينيات، وحقيقتها، والجهات التي كانت تقف وراءها». ((ملاحظة: أعتقد أن خير من تقترب مواصفاته من شخص أبو طبر وأرشحه لتمثيلها هو الفنان القدير مقداد عبدالرضا)).
هل كان ابو طبر من بنات افكار النظام آنذاك؟
وأضاف كاتب المسلسل علي حسين أن العمل يحاول الإجابة عن سؤال «هل كان السفاح القاتل مريضا نفسيا كما اشيع حينها وكما نقلت وسائل الاعلام حينذاك؟ ولماذا ظهرت هذه الشخصية في تلك الفترة التي تعود الى بداية بناء دولة البعث؟». وأضاف الكاتب علي حسين «هذه الشخصية قيل عنها انها من بنات افكار المخابرات العراقية وانها صنيعة مخابراتية كان الهدف منها تنفيذ مخططات اغتيالات واعتقالات لعدد من الشخصيات السياسية المعارضة آنذاك». وعن سبب اختيار هذا العمل وتنفيذه في الوقت الحاضر قال حسين «اعتقد اننا بحاجة الى مراجعة دقيقة للماضي لمعرفة خفاياه لأن ما يحصل الآن مرتبط بالماضي القريب حتما. ولكي نتفادى حصول مثل هذه الاعمال البشعة علينا ان نسلط الضوء عليها ومعرفة اسبابها وغاياتها». وتابع: «هذا المسلسل يريد ان يقول ان المؤسسة الامنية في النظام السابق كانت تفعل ما تشاء من اجل تحقيق اهدافها، فلا شيء يمنعها من الوصول الى غاياتها حتى لو اضطرت لقتل الابرياء».
لا أتفق مع نظرية المؤامرة في قضية ابو طبر
قيام حرب تشرين أنسى الناس جرائم أبو طبر مؤقتا!
وليس دفاعا عن نظام الحكم آنذاك، ولا عن جهاز مخابراته، إذ لم اكن جزءا من النظام ولا من مخابراته، إلا أنني لا اتفق مع ما يذهب اليه منتجو المسلسل من محاولة الترويج – كما يبدو من الخبر - الى ان شخصية ابو طبر صناعة حكومية مخابراتية، وانه استخدم من قبل الدولة لتصفية معارضين لها، فهذه الامور لاتقوى على دليل ولا برهان وإنما هي محض خيال وتصورات، ولا يمكن قبولها عقلا، فنظام البعث كان مايزال في سنواته الاولى، وكان بحاجة لتثبيت اقدامه على الارض، ولا شك ان الامن هو احد ركائز اقامة واستمرار اي نظام، وان جرائم ابو طبر كانت تشكل اعظم تهديد للوضع الامني، الذي كان على شفا الانهيار بسبب تكرار جرائم ابو طبر في مناطق متعددة دون ان تسفر جهود الدولة والحكومة والحزب في كشفها وانهائها. وهي الجرائم الوحيدة التي استعانت الدولة فيها باجهزة امن عالمية اخرى حيث تم الاستعانة بخبراء فرنسيين وخبراء من الاتحاد السوفيتي، لفحص مسارح جرائم ابو طبر والمبرزات التي خلفها في نلك المسارح، واعطو ملاحظات واستنتاجات فنية الى الجهات القائمة بالتحقيق. ولو كانت الدولة او اجهزة امنها ومخابراتها تريد تصفية ضحايا جرائم ابو طبر، فكان بامكانها ان تصفيهم واحدا تلو الآخر دون الحاجة الى قتل الابرياء من النساء والاطفال معهم بشكل وحشي، كما أن تلك الجرائم كانت تشكل تقويضا وتهديدا للامن العام واقدمت السلطة حينها على عدة اجراءات ادارية منها إستبدال وزير الداخلية واقالة مدير الشرطة العام ومدير شرطة بغداد ومدير النجدة بتهمة التقصير في كشف هذه الجرائم البشعة التي هزت المجتمع العراقي عموما والبغدادي خصوصا على مدى عام كامل. وكانت على وشك ان تقوض النظام الأمني كله لولا وقوع حرب تشرين (العاشر من رمضان 1973) التي الهبت المشاعر القومية للعراقيين وجعلتهم ينسون جرائم ابو طبر وانصرفوا لمتابعة اخبار القتال على الجبهة السورية وحركة الجيش العراقي بمدرعاته باتجاه الجبهة السورية، حتى إنتشرت إشاعة ساخرة في بغداد حينها "أنّ أبو طبر إلتحق جنديا بالجبهة!".. وفعلا فقد انقطعت جرائم ابو طبر بعد حرب تشرين مدة اربعة شهور!
الدولة كانت تتوقع ان تكون مخابرات اجنبية وراء هذه الجرائم
اما موضوع استغلال الدولة لتلك الحوادث الأجرامية البشعة في ملاحقة خصومها، فأود أن أعيد التاكيد على امرين هامين:
الاول ان الدولة كانت تضع في حساباتها وتوقعاتها ان تكون جرائم ابو طبر من فعل او تخطيط جهات معادية سواء مخابرات اجنبية او عناصر معارضة من داخل العراق أو خارجه بغية اسقاط النظام وهو في سنواته الاولى، لكن ان يكون بين ضحايا ابو طبر من هم معارضون للنظام فهذا لم يثبت قطعيا،
الأمر الآخر بالنسبة لتحركات واجراءات الدولة لكشف الفاعلين، فقد كان قمة ذلك هو يوم فرض منع التجوال الذي فرضته الدولة على بغداد ومنعت حركة الطائرات من والى بغداد، ومنعت التجوال تماما في شوارع العاصمة، وامرت الناس بلزوم دورهم، واتذكر ان ذلك حصل في اول يوم جمعة من شهر رمضان 1973 وقبيل نشوب حرب تشرين بايام قليلة، وقسمت بغداد الى قطاعات، وكان آمر الخطة هو طه الجزراوي، وتم تجميع عناصر التفتيش في ملعب الادارة المحلية بالمنصور قبل يوم من فرض منع التجوال، وتشكلت مفارز لتفتيش جميع الدور والمباني في بغداد باشرت عملها من الصباح الباكر وحتى وقت متاخر من المساء، وكانت كل مفرزة تتالف من الحزب والامن والمخابرات والشرطة. وقد زودت اللجان التفتيشية بمعلومات وفق المعطيات التي وفرها الخبراء الفرنسيون والسوفييت عن علامات واوصاف المجرم ابو طبر التي استخلصوها من خلال الوقائع الجرمية وآثار الاصابات على الضحايا، واذكر منها مواصفات الطول وضخامة الجسم وهو ما صدق فعلا حين تم القبض على المجرم حاتم. وبالاضافة لذلك كانت هناك معلومات امنية عن اشخاص يشتبه النظام باحتمال صلتهم بهذه الجرائم ومعارضين سياسيين تم التوجيه بالتركيز على تفتيش مساكنهم اكثر من غيرها.
أنا أول من أعاد فتح ملفات ابو طير في مجلة الشرطة:
وانا اقول ذلك وغيره تعقيبا على الخبر وعلى مسالة اعادة تمثيل قصة جرائم ابوطبر، واعادة فتح ملفات القضية، وكنت قد ساهمت خلال اعوام 1996-1998 بنشر سلسلة مقالات نشرتها في مجلة الشرطة العراقية التي كنت أترأس تحريرها عن "جرائم ابو طبر"، وسرعان ماتلقفت هذه الحلقات "قناة الشباب التلفزيونية" آنذاك بما لديها من امكانات وقدرات حرة على الحركة والانتاج، وانتجت سلسلة من برنامج وثائقي معززا بمشاهد تمثيلية reconstruction تناول جرائم ابو طبر استنادا الى الملفات التحقيقية التي وفرناها لهم من ارشيف الشرطة والصور والافلام المتوفرة عن الكشف على مسارح الجرائم، فضلا عن توفير لقاءات مباشرة مع القائمين بالتحقيق حينها من كبار ضباط الشرطة والذين سردوا الوقائع كما حصلت من خلال تجربتهم ومعاينتهم واشتراكهم في التحقيق. وما زلت اعتقد ان قضية جرائم أبو طبر تصلح لان تتحول الى دراما تلفزيوني شيّق شريطة توخي الدقة والموضوعية والتزام الوقائع وعدم ادلجة الموضوع او تسييسه بما يخدم مواقف مسبقة من بنات افكار منتجي هذا المسلسل لعدة امور:
لا أؤيد التوجه الى التفسير السياسي والمخابراتي لجرائم ابو طبر
ففي البدء كنت حين وقعت حوادث ابو طبر ضابط شرطة عايشت التحقيق في جرائم ابو طبر (كوني حينها خبيرا بالادلة الجنائية والآثار الجرمية وحضرت عددا من مسارح جرائم ابو طبر) كما اشتركت في فحص بعض المبرزات الجرمية من خطوط وبصمات ودماء من مخلفات جرائم ابو طبر. وكانت الشرطة من خلال مكافحة الاجرام هي التي تتولى التحقيق في جرائم ابو طبر بدءا من اولاها انتهاء بالقبض عليه في الكرادة (منطقة ساحة 52). إلا أنه بعد القبض على حاتم كاظم واعترافه بجرائمه تم تشكيل لجنة مشتركة من الشرطة والامن والمخابرات تولت التحقيق مع حاتم وجماعته، وكان مقر اللجنة في البتاوين (حاكمية المخابرات) وسبب اشراك المخابرات في اللجنة التحقيقية هو ظن واعتقاد الدولة آنذاك ان حاتم ربما يكون عميلا لأحدى المخابرات الاجنبية او ان جرائمه ذات صلة بمخابرات اجنبية، ولم يثبت ذلك، وكان الذي يبعث على الاعتقاد بوجود دور للمخابرات الاجنبية المعادية ان الجرائم حصلت في اوائل حكم البعث، والنظام كان يسعى لتثبيت اقدامه، كما انها حصلت عقب كشف محاولة ناظم كزار اغتيال الرئيس البكر ونائبه صدام، وكان لابد من التاكد من وجود صلة بين ذلك الحادث والجرائم التي حصلت بعده. ولم تثبت اية صلة بين ذلك الحادث وبين الجرائم التي ارتكبها ابو طبر.
لكي يكون المسلسل ناجحا وموفقا لابد من هذه الأمور:
الأستعانة بالملفات الأصلية، ومحاضر التحقيق، وأفلام كشف الدلالة، ومحاضر الأدلة الجنائية عن جرائم ابو طبر.
الرجوع إلى الأحياء ممن واكبوا الأحداث وشاركوا فيها وبخاصة المحققين وكبار ضباط الشرطة ((وللأسف أننا فقدنا عددا منهم أستشهدوا بعد غزو العراق منهم اللواء طارق عبد لفتة واللواء عبدالمحسن علي عبدالسادة واللواء فيصل محجوب –الأخير توفي في الموصل قبل عشر سنوات-، وآخرين منهم من غادر العراق، ومنهم من إنقطعت عني أخبارهم أمثال مناف الصالحي ومنذر سليم وغيرهم)).
الحفاظ على الاسرار العائلية وحق أسر الضحايا وعشائرهم في عدم التشهير بهم ويفضل – بل يجب – إستخدام أسماء اخرى غير اسمائهم إحتراما للخصوصية وعدم إيذاء المشاعر، ولا أعتقد أن هذا الأمر يفوت على منتجين وفنانين محترفين.
الأبتعاد عن أية أفكار ومواقف سياسية مسبقة بغض النظر عن موقفنا من النظام، أو من أجهزته، فما صرح به بعض المتحدثين عن المسلسل يحمل خطورة في ادلجة الجرائم وتفسيرها على غير واقعها، أو إفتراض امور لم يكشفها ولم يثبتها الواقع.
من الضروري الاستعانة بمحامين وقانونيين في تدقيق الجوانب ذات العلاقة بالانتاج الفني واحتمالات ايذاء معنوي لاشخاص بذاتهم او بعوائلهم لان هكذا مسلسل يتعرض لجرائم وقعت على اسر بغدادية معروفة من عشائر معلومة قد يعرض القائمين على انتاج المسلسل الى مسائلات ودعاوى قضائية.
وربما تكون لنا عودة للموضوع في مناسبة أخرى...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق