الخميس، نوفمبر 27، 2008

"الدولار الأميركي" سفينةٌ تَغْرَقُ والإدارة الأميركية تُحَمِّلُها مزيداً من الأثقال



شبكة البصرة
ماجد الشهابي
أغلبُ الظن أنّ معظم القرّاء لم يَشْهَدوا في حيواتهم نقوداً غير النقود الورقيَّة. وربّما يتساءل بعضهم أيضاً: وهل ثمّة نقود غير النقود الورقيَّة؟
لم تُستخدَمْ النقود الورقية إلاّ في فترةٍ قصيرة جدَّاً نسبيّاً من التاريخ. فمنذ أنَّ صارت عمليَّة التبادل مُمْكِنة، أيّ منذ أنْ حصلتْ تلكَ النقلة النوعية في تطوّر القوى المُنتجة وصار الفردُ قادراً على أنْ يُنْتِج أكثرَ من حاجته، وبالتالي صار لديه فائضٌ يُمْكِنُ أنْ يتبادله مع فردٍ آخر، صار هناك "نقوداً"، ولم تكُنْ تلك النقود ورقيَّة أبداً.
لقد فتحَ ظهور النقود الورقيَّة، الباب على مصراعيه لحدوثِ أكبرِ عمليَّةِ نَهْبٍ مُنَظَّمة لنتاجِ عملِ الناسِ وكدِّهم في التاريخ، فكيفَ حدَثَ ذلك؟
على الرغم من كثرة المُتَغَيِّرات في المُعادلة الاقتصادية لمجتمعٍ ما فمن اليسير التقاط العوامل الأساسية التي تُتيحُ فهم اللوحة الاقتصادية لذلك المجتمع، وأكثر تلك المفاهيم الأساسية ضرورةً لفهمِ تلك اللوحة هما مفهومي "القيمة" و" النقد".

القيمة:
هناك مقاربات كثيرة لفهمها وبالتالي لقياسها. أما المبدأ الذي أعتمدُهُ لقياس القيمة فهو مايلي: تُقاس قيمة أيّ سلعة بـ"وقت" العمل الضروري إجتماعيَّاً لإنتاجها. هذا "الوقت" هو مُعطى مُتَغَيِّر ويرتبطُ تغيُّرُه بالعاملٍ الأساسيّ الذي هو تطوّر وسائل الإنتاج. وتشمل وسائل الإنتاج أدوات العمل (الآلات...إلخ) والقوّة العاملة (الإنسان العامل)، بالإضافة إلى عامل مُهمٍّ آخر هو تنظيم العمل. فإذا كان إنتاج خمسين طناً من القمح في مجتمعٍ ما يحتاج إلى عامٍ كامل وإنتاجُ خمسة أطنان من القطن يحتاج إلى عام كامل وكان إنتاجُ كيلو غرام واحد من الذهب في المجتمع نفسه يحتاجُ إلى عامٍ أيضاً فإنَّ قيمة خمسين طنا من القمح تعادل قيمة خمسة أطنان من القطن وتعادلُ أيضاً قيمة كيلو غرام واحد من الذهب في ذلك المجتمع.

النقد:
ظهرَ النقدُ كضرورةٍ من أجل: مُعادَلَة القيمة (مُعادِلٌ عام) وحِفِْظُها (ادّخارها) وتبادلها (وسيط التبادل في التجارة). فقبْلَ ظهور المُعادل العام للقيمة (أي النقد) كان تبادل القِيَمْ يتمُّ بالمقايضة المباشرة، من يملك القمح ويحتاج إلى القطن يحمل خمسين كيلو غراماً من القمح ويبحثُ عمَّن يُبادلهُ إياها بما يعادلها من القطن وهو في حالتنا خمسة كيلوغرام من القطن.
في سياق مئات السنين من التطوّر ظلّ الناس يبحثون عن سلعةٍ تَصْلُحُ لأن تكونَ "مُعادلاً عامّاً" للقيمة، بحيثُ تتوفّر فيها شروط أساسية: لاتتغيرُ قيمتها مع الزمن (وقت العمل الضروري إجتماعيَّاً لإنتاج مقدار ثابتٍ منها لايتغيّر،) لا تتلف مع مرور الزمن (لاتفقد قيمتها الاستعماليّة)، صغيرة الحجم نسبيّاً (لسهولة التداول)، ووجد الناس ضاّلتهم في المعادن النفيسة: الذهب والفضة، وبخاصّة الذهب.

البنوك:
كانت البنوك في الأصل عبارة عن مستودعات أمينة يحتفظُ فيها العاملون في ميدان الإقراض بالفائدة بما لديهم من ذهب. وصار هؤلاء يَقْبَلون إيداع النقود الذهبية لأيّ شخصُ، بدلاً من أنْ يُبْقيها في بيته، ويتقاضون لقاء هذه الخدمة رَسْماً صغيراً، كما يحصلُ ذلك الشخص من صاحب المستودع على إيصال أمانة، يشيرُ الإيصال إلى كمية الذهب التي تمّ إيداعها في مستودعاته. وعندما يحتاج الشخص إلى عملة (ذهب) لشراء شيء ما يذهب إلى المستودع ويسترجعُ جزءاً من ذهبه ويشتري به ما يشاء ويحصل على وصل أمانة يشيرُ إلى ما تبقّى من ذهبٍ لديه في ذلك المستودع. وإذا أنتجَ الشخصُ مزيداً من المنتجات وباعها وحصل على كميّةٍ أخرى من الذهب لقائها فإنَّه يذهبُ إلى ذلك المستودع ويودعها فيه ويحصلُ على إيصال أمانة آخر يشيرُ إلى كمية الذهب المُودعة. وفي هذا السياق حَصَلَتْ نقلةٌ نوعيَّة في عملية تبادل القِيَمْ، صار الشخصُ إذا أراد أنْ يشتري من بائعٍ ما شيئاً قيمته تُعادل كمية الذهب التي ينصُّ عليها أحد الإيصالات التي يمْلُكُها فهو لايذهبُ ويُحضِرُ الذهب ويعطيه للبائع بل يعطيه الإيصال الذي ينصُّ على كمية الذهب المذكورة. وصار الناس يتبادلون الإيصالات الدالّة على القِيَم في سياق عمليات التبادل (الشراء والبيع)، وهذا هو أصل الأوراق النقديه: إنّها إيصالات أمانة. إنّها إيصالات أمانة، والأمانة هي الذهب. الإيصال بحدِّ ذاته ليس سوى قطعة ورقية لاقيمة لها بذاتها.

الخدعة الكبرى:
عندما تزايدت الأمانات الذهبية لدى أصحاب "مستودعات الأمانة" (المَصارف) تزايدتْ الإيصالات وتنوّعت: إيصالات بغرام واحد من الذهب وإيصالات بعشرة وإيصالات بمئة غرام وإيصالات بكيلوغرام، وصارت إيصالاتهم تُتَداوَلُ في الأسواق، وكان مجموع مُحتوى ما تنصُّ عليه تلك الإيصالات يساوي كميّة الذهب الموجودة في مستودعاتهم.
ولأنَّ أحتمال أنْ يأتي كلّ المُودعين ليسحبوا كل ما لديهم من ذهب في ذلك المستودع في وقتٍ واحدٍ ضئيلاً جداً غامرَ صاحب المستودع في أنْ يستخدمَ جزءاً من ذلك الذهب في عمليات إقراض بالفائدة ويُحققَ ربحاً باستخدام أموال (ذهب) المُوْدِعين.
أماالنَّقْلة النوعيَّة، الخدعة الكبرى، فقد حصلتْ عندما بدأ أصحاب مستودعات الأمانة أولئك يطبعون إيصالات أمانة وهميَّة (لم يُوْدِعْ أحدٌ ذهباً مقابلها) ويستخدمونها في أعمالهم التجارية. لقد صار ذلك مُمْكناً بالنسبة لهم لأنَّه، مالمْ تحصل أزمةٌ كبرى، فإنَّ المُودِعين لن يأتوا جميعاً ليَستعيدوا كلَّ ما أودعوه لديه من ذهب ويعطوهُ إيصالاتِهِ في وقتٍ واحد). وقد جرى تعميم هذه الخديعة في الميدان الاقتصادي العالمي، وشَرْعَنتْها الحكومات وَوَضعت لها بعض الضوابط: مثلاً: لايُسمحُ لمَصرفٍ ما بأنْ يُصْدِرَ عملةً ورقيَّة (إيصالات أمانة) تزيد عن نسبةٍ معيَّنة (50% مثلاً) مما لديه من ذهب. لكن تلك الإيصالات ظلَّتْ قابلة للإبدال بالذهب دائماً. وهكذا كان الحال في الولايات المتحدة[i] إلى يوم الخامس عشر من آب/أغسطس عام 1971. في ذلك اليوم أصدرت الإدارة الأميركية (برئاسة ريتشارد نيكسون) قراراً بقطع العلاقة بين إيصالات الأمانة الأميركية (الدولار) وبين الذهب. كان كلّ خمسة وثلاثين إيصال أمانة أميركي (دولار) يعادل أونصة ذهب واحدة. ويُمْكِنُ لأيّ دولةٍ تتاجر مع الولايات المتحدة، لنَقُلْ باعتْ لجهةٍ ما في الولايات المتحدة بضاعةً قيمتها خمسة وثلاثين مليون إيصال أمانة (دولار) أنْ تستبدلها من أحد بنوك الإحتياط الفيدرالي بمليون أونصة ذهب.

ديكتاتورية نقدية
بعد قرار نيكسون لمْ تَعُدْ تلك الإيصالات قابلة للإبدال بالذهب أبداً. وقد أطْلَقَ ذلك القرار يدَ كارتل البنوك المُسمّى بنك الاحتياط الفيدرالي لكي يطبَعَ من تلك الإيصالات (الدولارات) ماشاء له أنْ يَطبع دون أنْ يخشى أنْ يأتي يومٌ يطالبُه فيه أحدٌ بالذهب الذي يُعادلها.[ii] ومنذ ذلك اليوم بدأت "فُقاعة الدولار الأميركي" بالتَشَكُّل والانتفاخ. وبالمناسبة فإنَّ بنك الاحتياط الفيدرالي ليس فيدرالياً، أيْ ليس حكوميَّاً. ليس فيه شيء فيدرالي سوى اسمه. إنَّه مؤسسة مصرفية خاصَّة[iii] تَحْتَكِر إصدار العملة الورقيّة الأميركية، لكنَّ الحكومة الفيدرالية الأميركية تحميها وتحمي امتيازها على الرغم من أنّه ليس في الدستور الأميركي ما ينصُّ على السماح بإنشاء بنك مركزي. نظام الاحتياط الفيدرالي هو كارتل بنوك خاص، لاتملكُه الحكومة الأميركية، إلاّ أنّها تستفيدُ من وجوده.

زياد الأسعار على الرغم من انخفاض القيمة:
إذا كنا نعيش في مجتمعِ رأسمالي فيه سوقٌ حرّة وليس فيه احتكار فيجب أنْ تنخفض "قِيَمُ" السلع باستمرار، والسبب هو أنَّ وسائل الإنتاج (أدوات الإنتاج ومهارات اليد العاملة وتنظيم العمل) في تطوُّرٍ متواصل، وهذا التطوُّر يُخَفِّضُ "وقتَ العمل الضروري إجتماعيّاً" لإنتاج السلع. لكنَّنا على الرغم من ذلك نشهدُ ارتفاعاً متواصلاً في أسعار المنتجات في شتى بقاع العالم، فلماذا؟
تلعبُ في هذا الأمر عوامل عدّة منها مقدار الطلب على السلعة والاحتكار والمضاربة، إلاَّ أنّ العامل الجوهري والأهمّ والأشد وطأةً والأكثر ديمومةًً هو "الخيانة المَوْصوفة للأمانة، تلك الخيانة التي تمارسها الجهات التي تتحكّمُ بإصدار "إيصالات الأمانة"، الجهات التي تتحكّم بإصدار المُعادل العام للقيمة: النقد. يُسمي "خبراء" الاقتصاد هذه الخيانة-السرقة باسمٍ آخر يُعمي المُتابع عن حقيقتها، يسمّونها "التضَخُّم".

سرقة القيمة:
مَنْ هم أولئك الذين يمُدُّون أياديهم الخَفِيَّة إلى جيبِ كلِّ مَن يحمل إيْصالات أمانة (نقد وَرَقي) يُمَثِّلُ القِيَمْ التي أنتَجَها بجهدِه وكَدِّه، ويَسرقون جزءاً من تلك القيَم كلَّ يوم؟ إنَّهم مُلاَّكُ المَصارف المركزية، سواءٌ كانوا أشخاصاً بعينهم، كما هي حال كارتل الاحتياط الفيدرالي في الولايات المتحدة، أم كانوا رجال السياسة في الحكومات، سواءٌ كانت ديمقراطية أو ديكتاتورية. إلاّ أنَّ أكثر أولئك اللصوص سطوةً هو كارتل الاحتياط الفيدرالي الأميركي، وذلك لأنَّه لا يكتفي بسرقة المواطن الأميركي فحسب بل يسرقُ كلَّ شخصٍ أو مؤسسةٍ أو حكومةِ بلدٍ يَدَّخِرُ جزءاً من القِيَمِ التي يُنتجها بواسطة "إيصالات الأمانة" التي يُصْدِرُها ذلك الكارتل، أي: أوراق النقد الأميركية، "الدولار".

الدولار الأميركي والأزمة الراهنة
بعد الحرب العالمية الثانية اجتمعت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي خرجت من الحرب باقتصاد قويّ لم يتعرَّض إلى دمارٍ يُذْكَر، كما كانت الحال بالنسبة للأوربيين، واتفق الجميع في "بريتون وودز" على إنشاء نظام صرف عملات، يجري وفقاً له تبادل العملات الأوروبية مع الدولار الأميركي بناءً على سعر صرف ثابت[iv] نسبيَّاً. وبعد ذلك بسنوات تم تحرير أسعار الصرف وصارت السوق، بالإضافة إلى تدخلات المصارف المركزية في تلك البلدان، هي التي تقرِّرُ أسعار الصرف. ثم جاء قرار نكسون عام 1971 الذي قضى بإلغاء مبادلة الدولار بالذهب فكان المسمار الأخير في نعش إتفاقية بريتون وودز.
شهدَتْ المرحلة بين توقيع اتفاقية بريتون وودز 1945 وقرار نيكسون عام 1971، الذي قبَرَ الاتفاقية، جهداً أميركيَّاً محموماً لجعلِ الدولار الأميركي العملةَ المُعْتَمَدَة للمبادلات الدولية وبالتالي عملة الاحتياط في المصارف المركزية في مختلف دول العالم، ونجحَ الأميركيون في ذلك. وكانت موافقة السعودية، أكبر مُصَدِّرٍ للنفط في العالم، على اعتماد الدولار الأميركي في تسعير نفطها وبيعه، علامة فارقةً في تحقيق هذا المَسعى.
منذ عام 1971 وإلى يومنا هذا يتمتّعُ كارتل البنوك الأميركي (الاحتياط الفيدرالي) بامتيازٍ لم يَحظ بمثلِهِ أحدٌ في التاريخ: إصدار نقد ورقي تُنْتِجُهُ مطبَعَةٌ لا غَيْر لكنَّ مُعظمَ الناس يَقْبَلُونه، كما القَدَرْ، كما لو أنّه مُمَثِّلاً لقيمَةٍ ثابتة، وهذا القبول ناجمٌ عن ثقةِ، ولا شيء غير ثقةِ، المُتَعاملينَ بأنَّ خَلْفَ تلك الورقة يقبَعُ اقتصادٌ منتِجٌ هو الأقوى في العالم وهذ الاقتصاد يَضْمَنُ بقاء مقدار القيمة التي يُمَثِّلُها هذا النقد ثابتاً.
كان الاقتصاد الأميركي هو "الأقوى" في العالم، إلاّ أنّ تلك الحال لم تَدُمْ طويلاً. فبالإضافة إلى أكثر من ربع قرن من الكدّ والشغل المنتج والأبحاث والتطوير في دول أوروبا وآسيا التي راكَمَتْ فيها قِيَمَاً هائلاً وفوائض تجارية هائلة، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تستهلكُ وحدها قرابة نصف الإنتاج العالمي، استغلّ الأميركان شعباً وحكومةً وضعهم المُتَفَوِّقْ وامتيازهم النقدي (لكَوْنِ الولايات المتحدة هي التي تُصْدرُ عملة المبادلات الدولية، الدولار) وضلّوا الطريق. كانت الولايات المتحدة أكبرَ مُقْرِضٍ في العالم، أما الآن فهي أكبرُ مُقْتَرِضٍ في العالم. تبلغُ ديون الحكومة الأميركية (آب 2008) أكثر من 9 تسعة تريليونات[v] من الدولارات، منها ما يزيدُ على ثلاثة تريليونات ديون خارجية (اقترضتها الإدارة الأميركية من الصين واليابان والسعودية وبعض المصارف الأوروبية والآسيوية الأخرى). الشعب الأميركي نفسه صار يُنفق أكثر مما يُنتج[vi] (معدَّل نسبة الادّخار الإجمالية لدى الأميركيين في السنوات الثلاثة الماضية تحت الصفر). كما تقلَّص الناتج المحلي الإجمالي[vii] الأميركي GDP نسبةً إلى الإنتاج العالمي بأكثر من 100%، (كانت أميركا تنتج نصف الإنتاج العالمي تقريباً فصارت تنتج أقلّ من ربع الإنتاج العالمي[viii]. منذ منتصف السبعينات، حينما بدأ عجز الميزان التجاري الأميركي بالظهور، صارت الولايات المتحدة بلداً، (حكومةً وشعباً) تستهلكُ أكثرَ ممَّا تنتجُ. وقد بلغ عجز الميزان التجاري الأميركي عام 2007 مايعادل 738.6 مليار دولار سنوياً[ix].
كانت كارتل الاحتياط الفيدرالي يُصْدِرُ مُعطىً إحصائيَّاً يرمزون له بـ"M3"، وهو يُحصي حجم الكتلة النقدية (نقداً وائتماناً) مما يُتيحُ للناس معرفة مقدار الزيادة في حجم الكتلة النقدية الدولارية، إلاّ أنْ الحكومة الأميركية توَقَّفَتْ في آذار/مارس 2006[x] عن إصدار ذلك المُعطى الإحصائي، وما عادت دولُ العالم تعرفُ مقدار الزيادة في حجم الكتلة النقديّة الأميركية.
لو كانت نسبة الزيادة في حجم الكتلة النقديّة الأميركية التي "يَخْلِقُها" (يطبعها) كارتل الاحتياط الفيدرالي تعادل نسبة الزيادة في الناتج القومي الإجمالي الأميركي لَظلَّتْ القيمة التي يُمَثِّلُها الدولار مستقرَّة[xi]، إلاَّ أنْ الأميركان ظلَّوا يطبعون من الدولارات ما شاء لهم أنْ يطبعوا ويستخدمونها في شتى الميادين. كارتل الإحتياط الفيدرالي يطبع النقود (أيَّ يُزَيِّف مُعادِلات القيمة) ويُقْرِضها للإدارة الأميركية وللبنوك الأخرى، وبفائدة. لقد طبَعَ كارتل الاحتياط الفيدرالي كمياتٍ هائلة من النقد، ففي السنوات الثلاثة الأخيرة ضخَّ ماقيمته أربعة[xii] تريليونات من النقد والائتمان في السوق، هذا عدا مبلغ 700 مليار دولار الذي صادق الكونغرس على أنْ تَقْتَرِضُهُ الإدارة الأميركية لتُنْقِذَ فيه بعض المؤسسات المالية الفاشلة. وتشير بعض المراجع إلى أنَّ المبلغ "اللازم" تجاوز الـ700 مليار دولار بكثير وقد يصل إلى 5 تريليون دولار.[xiii]
من أيْنَ ستأتي وزارة الخزانة الأميركية بالسبعمائة مليار دولار وهي الخزانة المُفْلِسة[xiv]؟
أمام الإدارة الأميركية خياران: إمَّ أنْ تَفْرِضَ ضرائب جديدة وإمَّا أنْ تقتَرَضَ المبلغ. مسألة فرض ضرائب جديدة غير واردة، لأسبابٍ شتى يحتاجُ بحثها إلى مقالةٍ أخرى. والخيار الثاني هو الاقتراض... لكن ممَّنْ تقترِضُ الإدارة المُثقَلة بأكثر من تسعة تريليونات دولار من الديون؟ ستبيع مزيداً من السندات الحكومية إنْ وجدَت مَنْ يُجازفُ بعد بشرائها، أو، وهو أسهلُ الطرائق، الاقتراض من كارتل الاحتياط الفيدرالي... من أينَ سيأتي كارتل الاحتياط الفيدرالي بالنقود؟ سيخلِقُها من العدم... أيْ سيطبَعُها... الأمر الذي سيَفْرِضُ مزيداً من الضغط على الدولار، أي سيُخَفِّضُ "القيمة" التي يُمَثِّلُها، أي سيُخَفِّضُ قوَّته الشرائية.
والسؤال الآن: لماذا لم تنهار الثقة بالدولار فتتلاشى القيمة التي يُمَثَِّلُها على الرغم من الكميّات الهائلة من الدولارات التي يطبَعُها والائتمان الذي يُصْدِرُه كارتل الاحتياط الفيدرالي؟
طبعاً لقد تراجعت القيمة التي يُمَثِّلُها الدولار تراجعاً كبيراً منذ إنشاء "كارتل الاحتياط الفيدرالي" عام 1913 إلى يومنا هذا. إنّ دولاراً أميركياً واحداً يشتري عام 2006 من سلعةٍ معيَّنة ما كانت تشتريه خمسة سنتات فقط عام 1913.[xv] إلاّ أنَّ ذلك حدَثَ على مدى سنواتٍ طويلة، أكثر من تسعين عام بقليل.
ما الذي مَكَّنَ الدولار الأميركي من الصمود طيلة هذه المدّة، وبالتحديد طيلة المدَّة التي انقضتْ منذ أنْ أبْطَلَتْ إدارة نيكسون عام 1971 حق الدُوَل باستبدال دولاراتها (إيصالات الأمانة) بالذهب؟ والجواب هو أنَّ الولايات المتّحدة كانت قادرة على "تصدير" نتائج سرقاتها، كانت قادرة على تصدير "التضخَّم النقدي" الذي تسبِّبُهُ إلى البلدان الأخرى، وبخاصَّة عبر سنداتٍ التي تشتريها الدول والمصارف الأجنبية.
إلاّ أنّ المُشتثمرين في سندات الحكومة الأميركية بدؤوا يلمسون أنَّ ما يكسبونه من فائدة على السندات يأكلُه " التضخُّم"، فتضاءلتْ الثقة بتلك السندات ممّا حدى بالحكومة الأميركية إلى إصدار سندات مَحْمِيَّة من التضخم. إلاّ أنّه وعلى الرغم من ذلك يظلَّ المُستثمر خاسراً لأنَّ نسبة "التضخم" الحقيقيَّة أكبر من نسبة "التضخُّم" التي تَحْسُبُها وتُعلنها الحكومة الأميركية (ثلاثة أضعافها تقريباً بين شهر أيلول/سبتمبر 2007 وأيلول/سبتمبر 2008). [xvi]
والسؤال الآن: إلى متى سيظلُّ مُمْكِناً لأميركا أنْ تَسْرقَ العالم عن طريق سرقة "القيمة" التي يُمَثِّلُها النقد الورقي الأميركي "الدولار" (أي عن طريق تخفيض "القوِّة الشرائيّة" للدولار)؟
سيظلُّ ذلك ممكناً إلى أنْ يتوقَّف الناس عن "استيراد" "تَضَخُّمها النقدي". أيْ عندما يبدأُ الناس، دُولاً ومُستثمرين، بفقدان الثقة في الدولار، وبالتالي عندما يفقد الدولار "مكانته" كعملةٍ للمبادلات الدوليّة. لقد بدأت هذه السيرورة منذ أكثر من عقدين من الزمن، أمّا متى تحصل النقلة النوعيَّة، الكارثة، ويدفع الاقتصاد الأميركي، ومعه العالم لأنَّه وَثِقَ بلصوص القيمة، ثمنَ "البَلْطَجة النقديّة" التي كان ذلك الاقتصاد يمارسها ومايزال، في شكل "تَضَخُّمٍ" نقديٍّ هائل، أيْ انهيار للقوَّة الشرائيّة للدولار الأميركي، فهذا ما لا يُمْكِنُ وضع تاريخٍ دقيق له، لكنَّه، في رأيي، على الأغلب مسألة سنواتٍ لايتجاوز عددها عدد أصابع اليد.
ولكيْ يلمس القارئ المعنى العملي لـ"التضخُّم الهائل"، للانهيار المُحتَمَل للقوّة الشرائية للدولار الأميركي، نُذكِّرُ بمثال فريدٍ من التاريخ القريب: ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى. جرى ذلك في المانيا في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى، بين عامي 1920 و1923. ففي أثناء أربعة سنين من الطباعة المتواصلة لكميات هائلة من الماركات الألمانية صارت القوة الشرائية لتريليون 1000000000000 مارك عام 1923 تعادل القوة الشرائية لمارك ألماني واحد في عام 1914.[xvii] لقد خَلَقتْ الحكومة الألمانية من العَدَم (طَبعتْ) كميَّات هائلة من الماركات ممَّا أدى إلى انخفاض مُريع للقوة الشرائية للمارك، وبمعنى عملي فقد آلت القوة الشرائيَّة للمارك الألماني عام 1923 إلى الصفر[xviii]. وللعلم ففي أكتوبر من العام المذكور(1923) لم تَعُدْ الضرائب التي تجبيها الحكومة الألمانية، وهي المَصْدَر الرئيس لدخل الحكومات، تُشكِّل سوى ثمانية بالألف من عائداتها.

كلمة أخيرة:
"القيمة" لا تُخْلَقْ من العدَم. إنَّها تُصْنَعُ بالجهد والكّد والإبداع. يُمْكِنُ أنْ تجري سرقة القيمة كما يفعلُ الأميركان الآن، (وكل البنوك المركزيّة التي تُصْدِرُ الأوراق النقدية)، لكنَّ تلك القِيَمْ التي تجري سرقتها إنَّما هي قِيَمٌ أوجدتها ساعات وأيام وسنين عملٍ وجهدٍ وكدٍّ مليارات البشر. إنّها أعمار مئات الملايين من الناس المُنتجين يَهْدُرها صُنَّاع القرار السياسي، الأميركان منهم بخاصَّة، في مغامراتهم الناجمة عن عقلٍ مريضٍ بالجشع أو بالعَمَى الإيديولوجي أوكليْهما.
إنَّ مَنْ يُصغي إلى كثيرٍ من "الخبراء! الاستراتيجيين!"[xix] الأميركان وهم يتحدَّثون عن مشكلاتِ بلدهم وبخاصَّة أزمتهم الاقتصادية وورطتهم في "جريمة العصر"، غزو العراق، يستنتجُ بيسر أنَّه إذا كانت تلك هي سويَّة النخبة في المؤسسة السياسيّة الحاكمة، كونغرس وإدارة ومُستشارين معاً، فمن الطبيعي أنَّ تلاقي امبراطوريتهم ذات القوَّة التدميريَّة الهائلة مصير ما سبقها من امبراطوريّات، مع فارقٍ وحيد: سرعة الأُفول.

[i]
- كانت الحكومة الأميركية للمرة الأولى قد أبطَلَتْ بقوة القانون إستبدال الدولار بالذهب للمواطنين الأميركيين عام 1933(وكان عندها كل 20 دولار يعادل أونصة ذهب واحدة)، وأبطلتْ قانونية كل العقود التي اتُّفق فيها على الدفع بالعملة الذهبية. لكن الدولارات المملوكة للمَصارف الأجنبية ظلَّت قابلة للاستبدال بالذهب بواقع أونصة ذهب واحدة مقابل كل 35 خمسة وثلاثين دولار حتى عام 1971. راجع "Empire of Debt" الطبعة الأولى 2006 لمؤلّفيه وليام بونر وأديسون ويغن، صفحة177، وكتاب "The Revolution: A manifest" لمؤلِّفه، عضو الكونغرس الأميركي والخبير الاقتصادي رون بول، الطبعة الأولى 2008، صفحة 140.
[ii] - صرَّحَ نيكسون يومها "إنَّه إذا واصلنا سياسة مبادلة الذهب بالدولار وفق النسبة أونصة ذهب إلى خمسة وثلاثين دولار ففي غضون عامٍ واحد لن يبقى لدى أمريكا أونصة ذهب واحدة." راجع: "The Revolution: A manifesto" الطبعة الأولى 2008، صفحة140.
[iii] - المصدر السابق، صفحة 139. ولمن يرغب بمعرفة تاريخ هذه الكارتل وكيف تمّ إنشاءه و"تمريره" على الشعب الأميركي يمكن مراجعة كتاب: The Creature from Jekyll Island : A Second Look at the Federal Reserve لمؤلّفه: ج. إدوارد غريفن.
[iv] - كان يُمكنُ تعديل "القيمة الأسمية" لعملة دولة معيَّنة بنسبةٍ محدودة إذا حدَثَ "خللٌ جوهريّ في ميزان مدفوعاتها"، وذلك بعد استشارة صندوق النقد الدولي وموافقته.
[v] - ولكي تتمكن الإدارة الأميركية من الوفاء بالتزاماتها عليها أنْ تقترض يومياً 1.86 مليار دولار. في تموز/يوليو من العام الجاري 2008 رفع الكونغرس الأميركي "سقف الدين" المَسموح للحكومة إلى 10.6 تريليون دولار، راجع كتاب أديسون ويغن وكيت إنكونتريرا "I.O.U.S.A" الطبعة الأولى 2008 صفحة 12.
[vi] - في عامي 2005 و2006 كانت محصِّلة المُدَّخرات الشخصية للشعب الأميركي تحت الصفر، وفي العام الماضي 2007 زادت لتصبح 1% تقريباً من الناتج القومي الإجمالي، وللمقارنة فإنَّ النسبة نفسها في الصين تبلغ 40% من الناتج القومي الإجمالي! المصدر السابق صفحة 43.
[vii] - بلغ مجمل ما تنتجه الولايات المتحدة من سلع وخدمات " الناتج المحلي الإجمالي الأميركي" لعام 2007 مايقارب 13.5 ثلاثة عشر ونصف تريليون دولار. مقابلة مع ديفيد ووكر، وهو مُدَقِّق حسابات الحكومة الفيدرالية في عهد كل من الرؤساء ريغان وبوش الأب وكلنتن، راجع: "I.O.U.S.A" الطبعة الأولى 2008 صفحة 19.
[viii] - يبلغ الناتج المحلي الإجمالي للعالم كلّه، حسب صندوق النقد الدولي 54.58 تريليون دولار، والناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 13.5 تريليون دولار، وهو أقل من الرُّبع بقليل. راجع المعطيات الإحصائية لصندوق النقد الدولي على الرابط التالي:
http://www.imf.org/external/datamapper/index.php
[ix] - راجع كتاب "I.O.U.S.A" الطبعة الأولى 2008 صفحة 62.
[x] - راجع البيان الصحفي الصادر عن مكتب الاحتياط الفيدرالي على الرابط التالي: http://www.federalreserve.gov/Releases/H6/20060309/h6.txt
[xi] - نمت "الكتلة النقدية" (M3) من 2056.6 مليار دولار في أذار1981 إلى 10336.3 مليار دولار في أذار2006 فهل نمى الاقتصاد الأميركي بنسبة مساوية، بالتأكيد لم يتضاعف الناتج القومي الإجمالي عندهم خمسة مرات. راجع المعطيات الإحصائية لكارتل الإحتياط الفيدرالي على الرابط التالي: http://www.federalreserve.gov/Releases/H6/HIST/h6histc.htm
[xii] - راجع راجع موقع Shadow Convergent Statistics على الرابط التالي: http://www.shadowstats.com/alternate_data/download_m3?mode=text
[xiii] - مقابلة عضوالكونغرس د. "رون بول" مع CNN على الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=WorcSQfA1C8
[xiv] - بلغ عجز الموازنة للسنة المالية 2008 رقماً قياسيّاً مقداره 438 مليار دولار. راجع موقع صحيفة "USA Today" على الرابط التالي: http://www.usatoday.com/news/washington/2008-10-07-deficit_N.htm?csp=34
[xv] - راجع كتاب "Empire of Debt" الطبعة الأولى 2006 لمؤلّفيه وليام بونر وأديسون ويغن، صفحة 186.
[xvi] - راجع موقع Shadow Convergent Statistics على الرابط التالي: http://www.shadowstats.com/inflation_calculator?amount1=100&y1=2007&m1=9&y2=2008&m2=9&calc=Find+Out
-[xvii] المصدر: كتاب "Exchange, Prices and production in Hyper-Inflation: Germany,1920-1923" لـ "فريدريك هايِك" الصادر عن جامعة برنستون عام 1930 والذي أعيد نشره عام 1967 عن دار "راسل أند راسل". فصل أول صفحة 4.
[xviii] المصدر السابق نفسه الصفحة الرابعة.
[xix] - هل يمكن للقارئ أنْ يُصَدِّق أنَّ مُعظم أعضاء الكونغرس الأميركي صوَّتوا بالموافقة على مشروع قانون "Patriot Act"، الذي قَرَضَ جزءاً كبيراً ممَّا تبقى للمواطن الأميركي من حرِّيات، من دون أنْ يقرؤوه؟!!!! ذكرَ ذلك القاضي الأميركي الشهير أندرو نابوليتانو في محاضرة له في مؤتمر لأحد "بيوت الخبرة" الأميركية "The Future of Freedom Foundation"، وذكرَ أنّ مشروع القرار يتألف من 315 صفحة وأنّه تمَّ إعطاء أعضاء الكونغرس خمسة عشر دقيقة فقط لقرائته على شبكة إنترانت (وهي شبكة خاصة بالكونغرس)!! ولمن يرغب بمشاهدة المحاضرة مسجّلة يمكنه ذلك على الرابط التالي http://www.youtube.com/watch?v=35yhSifZ5jI&feature=related
وهل يُصدِّق القارئ أنَّ أحد أعضاء "لجنة الخدمات الماليّة في الكونغرس الأميركي" لاتعرف أنَّ الدولار الأميركي هو عملة ورقيَّة لم تعد مدعومةً بالذهب أبداً؟!!! أوردَ ذلك الخبير الإقتصادي وعضو الكونغرس د. "رون بول"، وهو عضو في "لجنة الخدمات المالية للكونغرس" المذكورة، يمكن مشاهدة الحوار على الرابط التالي: http://www.youtube.com/watch?v=2nSCKt4Cw6k.

ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار