الجمعة، مايو 09، 2008


بغداد من تاريخها تولد، وليس سواها أحد


بقلم: علي الصراف
هل كان يمكن، لغير أحمق، أن يفكر بقهر مدينة أعمق جذرا من باريس، وأغزر ثقافة من لندن، وأكثر مناعة في الروح من روما؟
ميدل ايست اونلاين
اغزُ بغدادَ، وستجد حتى حجارتها تقاوم. فبغداد هي روحها ومعناها. وبهما تقاوم.
أهلها، والذين عاشوا بها ومروا عليها، فأبدعوا فيها، هم الذين صنعوا تلك الروح، وهم الذين صقلوا ذلك المعنى. وكلاهما يقاوم. فخفف الوطئ.
وهي كعبةُ مجد من لحظة ما إبتدأ بناؤها عام 761م. بنيت على نصر، كالقلائل من مدن الأرض. وعاشت على سؤدد، كالأقل. وكانت مركز إشعاع حضاري، كأقل الأقل، فكانت مثل جوهرة فريدة، بين كل مدن الأرض.
ولا يوجد في الأرض سواها.
لا توجد سوى مدينة واحدة في الأرض يليق بها أن تكون مدينة المنصور والرشيد وأبو علاء المعري، وأبو تمام، والمتنبي، والشريف الرضي، وأبو حنيفة النعمان، وأبو فراس الحمداني، والجاحظ، وبديع الزمان الهمذاني، وابن النبيه، وبشار بن برد، وأبو العتاهية، والأصمعي، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، والعباس بن الأحنف، وعلي بن جَبلة الأبناوي، وابن الرومي، وأبو نؤاس، والبحتري، وابن الزيات، واسحق بن ابراهيم الموصلي، وأبو بكر الرازي، وابن سينا، وابن النفيس، وحنين بن اسحق العبادي، وأبو القاسم خلف بن عباس الزهاوي، ويوحنا بن ماسويه (ابو زكريا يحيى بن ماسويه الخوزي)، والكندي، والفارابي، وجابر بن حيان، ومحمد بن موسى الخوارزمي، ومحمد الفرازي، والخليل بن احمد الفراهيدي، ومحمد بن اسحق بن يسار، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وعبد الملك بن هشام، واحمد بن حنبل الشيباني، وموسى الكاظم، ورابعة بنت اسماعيل العدوية، والعباسة بنت المهدي، وابن الفوطي، وابو الحسن بن نافع (زرياب)، والخطاطون: ابن المقلة، وابن البواب وياقوت المستعصمي. ومحمد بن الحسن الطوسي، وعبد الله بن المعتز، وأبو بشر عمر بن عثمان (سيبويه)، والمفضل الضبّي، والكسائي الفراء، وابن السكيت، وسنان بن ثابت، والحسن بن الهيثم، والبيروني، وأبو الوفاء البوزجاني، والإمام مسلم، وأبو داود، وابن ماجة، والترمذي، والنسائي، وداود الظاهري، وأبو الحسن الدارقطني، وابن كثير، والحاكم النيسابوري، ومحمد بن يزيد المبرد، وأبو سعيد السيرافي، وابن خلكان، وابن فارس (أبو الحسن احمد بن فارس بن زكريا)، وأبو الفتح عثمان بن جني، وعبد الحميد بن يحيى، والصاحب ابن عباد، وأبو محمد القاسم بن علي الحريري البصري، وابن قتيبة الدينوري (ابو محمد عبد الله بن مسلم)، وأبو الفرج الأصفهاني، وأبو منصور الثعالبي (عبد الملك بن محمد ابن إسماعيل)، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري، واليعقوبي (احمد بن أبي يعقوب بن واضح)، واحمد بن يحيى البلاذري، وأبو حنيفة الدينوري، وعلي بن الحسين المسعودي، والخطيب البغدادي (أبو بكر احمد بن علي بن ثابت)، وعز الدين بن الأثير، والجغرافيون: اليعقوبي والاصطخري وابن حوقل والمقدسي. وياقوت الحموي، وأبو حامد الغزالي، وأبو الحكم الدمشقي، وأبو علي يحيى بن غالب الخياط، وأبو كامل الحاسب، وأبو معشر البلخي، وأبو النصر يحيى بن جرير التكريتي، ومحمد تقي الشيرازي، وساطع الحصري، ومعروف عبد الغني الرصافي، ومحمد صدقي الزهاوي، ونازك الملائكة، وغائب طعمة فرمان، وذو النون أيوب، ومحمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السياب، وبلند الحيدري، وجواد سليم، وفائق حسن، ومحمد القبانجي، ومحمد رضا الشبيبي والمئات غيرهم.
هؤلاء هم بغداد. انهم يعيشون في أحيائها، ويمرون كل يوم في طرقاتها، ويجلسون في مقاهيها،
ويشاركون في مجالسها، ويخوضون سجالاتها، ويرسمون ملامح وجهها
.
فخفف الوطئ

فهؤلاء الذين ولدوا فيها، ومروا بها، وانتقلوا اليها، وتوفوا فيها، وتركوا بصماتهم على روحها، كانوا هم الذين صنعوا، من جوهرة التاريخ، مدينة لا يوجد على وجه الأرض سواها.
وهي الوحيدة التي يليق بها ان يكون "بغداد" إسمها. لتتبغدد بجذره الآرامي. ولتتغنى بدجلة الخير من حولها، ولتبتهج بـ"عيون المها بين الرصافة والجسر".
ولا شيء سواها. ليس لانه لا يمكن بناء مدينة مثلها، بل لانه لن يمكن أن يمر بأي مدينة في الكون من مروا بها، ولا أن يصنعوا فيها ما صنعوا، ولا أن يكتبوا على صفحات روحها ما كتبوا، ولا أن يخلقوا فيها من العلم والفن والأدب والمعرفة ما خلقت بغداد، ومَنْ بهم أهلها قرأوا، وغنوا، وأحبوا، وتسامروا، وتخلقوا.
ولو كان البنتاغون يعرف من هم هؤلاء، وماذا فعلوا، وكيف صنعوا ثقافة بغداد وكيف أقاموا روحها وسقوا معناها، لما جاءوا ولا غزوا.
ولكنهم لم يعرفوا، ولا حتى سألوا.
وظل الغوغاءُ غوغاءً، والبرابرةُ برابرةً، والهمجُ همجاً، حتى ولو جاءوا من عصر "ما بعد الحداثة".
لا شيء يفرقهم عن هولاكو سوى نوعية الأسلحة، وقدرتها على الفتك الجماعي، برغم مرور ما يقارب الألف سنة.
أفهل نظرت لما به بغدادُ تقاوم؟
وهل كان يمكن لمدينة تمشي على وسادة تاريخ وثيرة كبغداد ان تسقط ضحية لغزو ولا تقاوم؟
لا روما ولا باريس ولا لندن تملك ما تملك بغداد من معنى. ولا مر بها، مقدار مَنْ مروا. فهل كان يمكن، لغير أحمق، أو سافل منحط وضيع، أن يفكر بقهر مدينة أعمق جذرا من باريس، وأغزر ثقافة من لندن، وأكثر مناعة في الروح من روما؟
ولكنهم جاءوا مثلما يجيء الرعاع والهمج، مزيجا من سلالة كاوبوي، ومن أيتام إسماعيل شاه الصفوي، لا شيء يفرقهم في الوحشية عن كل همج مروا على أسوار بغداد سوى المزيد من الوحشية، ولكنهم، مثل كل همج على أسوارها انتحروا، سينتحرون هم أيضا.
ليس لأنهم تنقصهم العدة، وليس لأنهم ينقصهم المال او العدد، ولكن لأنهم لا يعرفون أن ثمة، في الكون، بغداد واحدة. وهذه قد تكون قابلة للتدمير مائة مرة، إلا أنها لن تفنى، وروحها لن تنكسر. فكل أولئك الأعلام ما يزالون يعيشون فيها. وهؤلاء لا يمكن قتلهم على الهوية، ولا يمكن ان تطالهم "فرق موت"، كما لا يمكن قصفهم.
هؤلاء هم الذين اخترعوا بغداد، وهم الذين يبقونها حية، ليجعلونها "شيئا من تخيلهم"، وبغدادُ تُغزى لو أمكن غزوهم، وتُقتل لو أمكن قتلهم!
كل حجر في بغداد ما يزال ينطق بأسمائهم. وكل نسمة من هواء، هي شيء من نسائمهم، وأجسادُ أهلها شيء من أجسادهم
.
"فخفف الوطئ... ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد".
وآخر مَنْ يمكن أن يفهمه رعاعُ البنتاغون هو المعري
.
ولكن أهل بغداد، يعرفون، كما المعري، انهم إذ يمشون على طرقاتها، فهم إنما على سحابة من أرواح يمشون. وأن أديم أرضهم، ليس سوى أديم أجساد ما تزال حية... في أجسادهم.
وقد جاء الغزاةُ، مثلما جاءوا، فوطأوا وما خففوا، فانقلب أديم أرض بغداد عليهم. وما عرفوا كيف، ولا من أين، تأتيهم الضربات. لم يدركوا المعنى. ولا فقهوا السبب. حسبوا كل حسابات الفشل، ولم يفهموا أن التاريخ في بغداد هو الذي يقاوم؛ هو الذي يضع العبوة الناسفة؛ وهو مخزن كل القنابل. وهذا ما لن يمكن قصفه.
ولحسن الحظ، ما فهموا. ولن يفهموا. فهم كحمير البرية، لم يُخلقوا لكي يفهموا.
واليوم، لو أمكن للغزاة أن يذبحوا كل مَنْ يمكنهم ذبحهم، وأن يُغرقوا بغداد بطوفان الماء والدم، وأن يصيبوها بالطاعون، ويرموا في كل زاوية منها أكواما من الجثث، وأن يحرقوا مكتباتها، ويسرقوا متاحفها، ويرموا كتبها في النهر حتى يصبح لونه، من الحبر، أزرق،... فانها لن تموت.
وستضحك بغداد في آخر المجزرة لتقول للغزاة وعملائهم: لا شيء جديدا. كل ما تفعلون أعرفه. لقد مررتُ بهذا الموت مرات ومرات، فما نال الموتُ مني، وبقيتُ أنبض بالحياة، شامخة الروح، فيّاضة المعنى، وحرة.
يقولون "بغداد سقطت"،..
وكانوا هم الذين سقطوا.
في فخّها سقطوا.
لو كانت بغداد تقدر أن تسقط لكانت قد سقطت على يد هولاكو فلا تنهض مجددا. ولكنها نهضت. ومن كل مجزرة تالية، ظلت تنهض ولتنحر الغزاة الذين نحروها. وقد فعلتها بغداد، في تاريخها، 12 مرة.
ومرة تلو الأخرى كانت المجازر هي السلاح الذي يستخدمه الغزاة.
وما أخطأوا هذه المرة. فقد حاولوا قتلها بأكوام الجثث، وبفرق الموت، والتهجير، وحواجز الكونكريت، وبمزيج من مليشيات وجنود ومرتزقة من كل جنس.
ولكن شاهد التاريخ يشهد انها تقاوم اليوم أفضل مما فعلت في كل مرة. وتتباهى بفرسان حريتها أكثر من كل مرة. وتدحر رعاع العصر أسرع من كل مرة.
وهي تدفع غزاتها وعملاءهم الى دَرَك لم يروا له قاعا بعد.
لو لم تكن بغدادُ بغدادَ لما كان لها من صمود أهلها ما كان. ولكنها من خلال الرماد والموت، كالعنقاء تنهضُ. وتاريخها هو الذي يصنع العبوة الناسفة.
يقول ابن النبيه:
بغداد مكّـتُنا وأحمد أحمدُ
حجوا الى تلك المناسك واسجدوا
يا مذنبين بها ضعوا أوزاركم
وتطهروا بترابها وتهجدوا
فهناك من جسد النبوة بضعةٌ
بالوحي جبريلُ لها يترددُ"
وهي مكّةُ الحرية، ويحلُّ الطواف بها سبعاً، إذ ليس سواها أحد، وليس كمثلها أحد.
علي الصراف

alialsarraf@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار