هشام البستاني*
الاخبار اللبنانية، الاثنين 17/3/2008
http://www.al-akhbar.com/ar/node/67344
فقدت القمم العربية مصداقيتها منذ زمن طويل، بل اكثر من ذلك: تحولت الى مناسبة للتندرعند العموم، ولاثبات العجز وغياب الارادة السياسيين، وتأكيد التبعية للاجندة الاقليمية المحددة أمريكيا، وفي بعض الاحيان، اسرائيليا.
واذا كانت القمم العربية – والمؤسسة المعبرة عنها (جامعة الدول العربية) - هما التعبيران المباشران عن عدم الرغبة الرسمية اساسا بمشروع تحرري وحدوي (بالضرورة)، وتتويجا للتفتيت القطري (فلولا التفتيت والانقسام لما كان هناك زعماء يجتمعون في قمة أصلا! ولما كانت هناك جامعة لدول عربية!)، الا ان هاتان المنظومتان لا تحققان حتى الحد الادنى الذي يكفل حفظ ماء الوجه (ولا نقول الكرامة) للدول الاعضاء ولشعوبها، ويسطع مثال العدوان الصهيوني الاخير على لبنان كمؤشر على هذه المسألة، حيث عجزت جامعة الدول العربية وقمتها ليس فقط عن التحرك لمواجهة العدوان او وقفه، بل كان ان تواطأ كثيرون مع العدوان الصهيوني اياه، وكأن اتفاقيات على رأسها اتفاقية الدفاع العربي المشترك، موجودة فقط لدرء العين وتبرئة الذمة المعنوية وذر الرماد في العيون.
الامر الوحيد المتفق عليه في منظومتي القمة العربية وجامعة دولها، هو القمع وتقييد الرأي الآخر واهدار الحريات، فلاحقاً لما يعرفه الجميع عن انعدام الاتفاق الا في نطاق اجتماعات وزراء الداخلية العرب، ها هم وزراء الاعلام العرب يتركون كل الملفات الكبرى ليستنفروا في وجه الفضائيات العربية، وينضموا الى نظرائهم في الداخلية الى خانة الاتفاق، لا على مواجهة الاخطار والتحديات الخارجية (الهائلة في كمها ونوعها)، بل على مواجهة خطر "الداخل".
اذا، القمة العربية بشكلها العام، تمثل غطاء للتوجهات الرسمية العربية (توجهات الانظمة)، وهذه بمجملها تابعة او موظفة في المشروع الامريكي/الصهيوني، والاستثناءات القليلة التي قد تمثلها مواقف تصدر عن ليبيا او سوريا في بعض الملفات، لا تستطيع الغاء التيار الجارف الذي تدفع به الانظمة العربية الاخرى في ظل غياب شامل لمشروع عربي استراتيجي من أي نوع (تحرري أو غيره!)، وغياب كامل لمركز عربي قوي ومؤثر اقليميا ودوليا، مثلته مصر في الخمسينات والستينات، والعراق في الثمانينات، في حين اختفى المركز المؤثر تماما في المشهد السياسي العربي الحالي (أيا كان هذا المركز).
فيما يتعلق بقمة دمشق القادمة، ينبغي التخصيص حول مسألة مغايرة قليلا، وهي انها تشكل واحدة من الصراعات السياسية التي تدار حاليا بين المحورين الاقليميين النافذين في المنطقة: من جهة – هناك المحور الامريكي الاسرائيلي ويشمل اضافة اليهما كل من السعودية ومصر والاردن مضافا اليها سلطة عباس في الضفة ومجموعة 14 آذار (الموالاة) في لبنان والحكومة العميلة في العراق، ومن جهة ثانية هناك المحور الايراني الذي يضم اضافة الى ايران كل من سوريا مضافاً اليها حزب الله والمعارضة في لبنان وحماس في غزة، والحكومة العميلة في العراق أيضاً.
الصراع بين هذين المحورين متشابك ويحوي داخله الكثير من التناقضات بغرض الامساك بأكبر قدر من الاوراق الاقليمية للتحكم بالصراع ومن ثم الانتصار فيه.
فالولايات المتحدة بعد ان احتلت العراق (مدخلة معها الفصائل الطائفية الشيعية كذراع يمنى) وعملت على تفتيته طائفيا، اضحت تدعم انشاء ميليشيات سنية مسلحة (الصحوات) تابعة لها للابقاء على التوازن، بعد ان اكتشفت حجم النفوذ الايراني لدى الفصائل الطائفية الشيعية. والاردن الرسمي مثلا يدعم مثل هذا التوجه من خلال التغاضي المحدود عن نشاط عراقي سياسي معادٍ للاحتلال، شرط ان يكون معاديا لايران وحزب الله على نفس الدرجة، على الرغم من أن الاردن الرسمي كان وما يزال الشريك الاكبر في تدريب الشرطة والجيش العراقيين "الجديدين" التابعين للحكومة العميلة للاحتلال في العراق، وهما كما يعرف الجميع ادوات في خدمة الاحزاب الطائفية.
اما ايران التي تدعو الى زوال الشيطان الاكبر، وزوال "اسرائيل"، وتدعم المقاومات في فلسطين ولبنان، فلا يجد رئيسها أحمدي نجاد حرجاً في الاجتماع مع الحكومة التي نصبها الاحتلال الامريكي في العراق، ومباركتها (ومباركاً من خلالها الاحتلال نفسه الذي اتى بها اصلاً، الاحتلال الذي يشجبه!)، والاجتماع برموزها داخل المنطقة الخضراء الخاضعة بالكامل للسيطرة الامريكية.
كل هذه المتناقضات الظاهرية هي في الواقع محاولة للامساك بأكبر قدر من الكروت الرابحة في لعبة "الكوتشينة" الاقليمية، والقمة العربية القادمة في دمشق، والجدل الدائر حولها، هي محض تعبيرات صغيرة عن هذا الصراع الاقليمي الاكبر، والتجاذب القائم بين محوريه.
يبقى ان نقول:
1- ان الخاسر الاكبر/الغائب الاكبر في هذه القمة هو العراق وقضيته، فمن جهة، تراجعت اولوية هذا الملف تماما في ظل بروز نوايا لتسويات ايرانية/امريكية في هذا الملف، وفي ظل اعتراف رسمي للانظمة العربية وجامعتها بالحكومة والعملية السياسية العميلتين بالكامل للاحتلال الامريكي في العراق، ومن جهة ثانية، نجح الاحتلال الامريكي في تحويل الدم المسفوح يوميا في العراق الى "عادة"، مسألة بلا قيمة على الاجندة الرسمية العربية والدولية، وخبر عابر في نشرات الاخبار. كما نجح الاحتلال في التعمية على انشطة المقاومة العراقية، وخلط الاوراق اعلاميا حول تنظيماتها ونشاطها وبرامجها.
2- الخاسر الثاني هم مواطنو غزة الذين يُقصف عمرهم يوميا وبلا كلل (قتل، قصف، تجويع، حصار...الخ)، منذ ان قرر النظام الرسمي العربي والعالمي اعتبارهم زائدة دودية ملتهبة على الكرة الارضية ينبغي استئصالها.
3- في المركز الخاسر الثالث يأتي عموم مواطنو الاقطار العربية الذين اصبحوا مجاميع للسمسرة والبيع والتجيير – من خصخصة الى رفع اسعار الى بيع الموارد والمقدرات...الخ-، كما اصبحوا اهدافا لغسل دماغ يومي لاقناعهم بأبدية وهمية لهوياتهم القطرية (ومن ثم الطائفية والاثنية والمناطقية والعشائرية...الخ) المزورة وشرعيتها، ولا جدوى الحديث عن مشاريع تحرر او غيرها من تلك الخطابات "الديناصورية"، وادخالهم قسرا الى الشرق الاوسط الامريكي الجديد.
كما يجب أن نقول: أن العدو الاساسي والاول هو الولايات المتحدة و"اسرائيل"، لا يجب ان تلتبس علينا الامور في هذه المسألة، ولا يجب أن يغيب عنا ان جزءً كبيرا من الحملة على قمة دمشق، هو محاولة تكسير المقاومات في لبنان وفلسطين، ودعم المشاريع التصفوية و"الصديقة" (سلطة عباس – 14 آذار – حكومة العراق)، وتحييد سوريا في الصراع الاقليمي، ودعم مشروع "محور الاعتدال العربي" الذي يواجه بالوكالة مشروع المقاومة والمشروع الايراني في ذات الوقت.
"ليش القمة، القمة ليش... بدل القمة هاتو جيش". هذا الهتاف الشهير في مظاهرات عمّان يلخص مسألة القمم العربية ببراعة: ففي غياب مشروع عربي تحرري استراتيجي يملك مقومات قيامه الموضوعية والمادية، وفي ظل غياب ارادة سياسية للبدء بالتهيئة لهكذا مشروع‘ تصبح القمة عبثية بالكامل، وعبئاً ثقيلاً على ضمائر الناس، وفي أحسن أحوالها، تتحول الى مكان لتجاذبات سياسية لا علاقة لها بواقعهم وما يقع عليهم من عسف وظلم وقمع واحتلال.
*كاتب من الاردن
_______
الناشر: كنعان النشرة الألكترونية ـ Kana’an – The e-Bulletin
السنة الثامنة ـ العدد 1470 ـ 26 آذار (مارس) 2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق