تفاصيـل مثيـرة عن انكشـاف سرّ الزائر المـلثّم!.
.إياد سعيد ثابت ساعة العراقيين ما تزال معدّلة على أيام صدام كان الرجل يحب شعبه بشكل غريب.. تشعر بذلك وهو يحدّثك عنه وعن عظمته وعن تاريخه المجيد..
وفى واحد من لقاءاتنا الكثيرة كنا قد ابتعدنا عن أحاديث السياسة لندخل فى أحاديث لها طابع شخصى إلى حد ما..
قلت له مبتسما "إن هذا الشعب الذى تحبّه كل هذا الحب مليء بالتناقضات.
وهو متفجر بالمشاكل والتحديات على مدار الساعة، ألا تخبرنى بالله عليك، عن ماهية مشاعرك وأنت تقود شعبا بمثل هذه المواصفات؟"
.وعلى هذا السؤال جاء ذلك الجواب الذى سبق لى الإشارة إليه فى مقال سابق..
أجابنى وهو يقهقه ضاحكا "أنت لا تستطيع أبدا أن تتخيل نوع اللذة التى أشعر بها وأنا أتولى قيادة هذا الشعب العظيم بكافة صفاته ومشاكله التى تطرقت إلى بعض منها.
ولربما كنت سأشعر بلذة أقل لو أنه كان بمواصفات مختلفة.. أشعر وكأننى أمتطى صهوة أسد.. وأن هذا الأسد سيفترسنى حال وقوعى من فوق ظهره".
كان يحب شعبه، وكان يريد من هذا الشعب أن يبادله حبا بحب، وقد بدأت قطاعات واسعة من الشعب فعلا فى الالتفاف حوله أكثر فأكثر بمرور الوقت واتضاح الحقائق. وكان ذلك من أهم العوامل التى دفعت أمريكا لاتخاذ قرارها بالقضاء عليه فى أقرب وقت، وقبل أن يتضخم حجمه ليشمل المنطقة برمتها فيدمر الاستراتيجيات المعدة لمنقطة الشرق الأوسط.وكان من البديهى أن ينتقل هذا الرعب إلى السلطات الايرانية فيدفعها إلى الهرولة السريعة للتحالف مع أمريكا وإسرائيل لتحقيق هدف واحد التقت عنده الأطراف الثلاثة.الصورة المغلوطة الشائعةكانت تجرى على أرض الواقع بعض الأمور التى كانت تسيء إلى صورة الزعيم الذى يحب شعبه، ويريد من هذا الشعب أن يبادله حبا بحب.
واحدة من هذه الأمور كنت أرى أنها قد نضجت ولم يعد هناك مندوحة من بحثها مع صدام.
وإذا لم يكن هناك من يفكر فى الإقدام على مثل هذه الخطوة، فليكن..
سأطرحها أنا رغم يقينى من أن ذلك سيثير غضبه عليّ، قلت له وأنا أنتقى كلماتى بعناية:- أخى صدام هناك مسألة تتمتع بنوع من الخصوصية وعلى درجة من الحساسية إلا أننى أعتقد بأنه قد أصبح من الضرورى بحثها معك إن كنت لا تمانع فى ذلك.
- ولم لا.. تفضّل.- إنها تتعلق بمسألة الرسوم والصور التى ملأت الشوارع والأزقة والدوائر والوزارات والمحلات العامة.
- ولقد فهم من فوره عن أى رسوم وصور أنا أتحدث، لذا فقد أجاب وشبح ابتسامة يلوح فى زاوية من فمه:
"تقصد تلك الخاصة بي، إنها تعبير عن حب الناس لقائدهم".
- ولم يعد هناك أى مجال للتوقف أو التراجع: "لا أبدا، إنها- على العكس من ذلك تماما- تسيء إليك وإلى صورتك لدى عامة الناس.. الناس ترى أنك أنت الذى تأمر بلصقها فوق الجدران.
يقولون إن لا أحد يجرؤ على فعل شيء كهذا بدون وجود ضوء أخضر منك.. صدّقني، أخى صدّام، ذلك يسيء إليك بشكل كبير للغاية.
رسوم بدائية لا تساوى ثمن الورق الذى رسمت عليه معروضة على الجدران فى كل مكان..".
- وكان لديّ جملة واحدة أضيفها قبل أن أصمت منتظرا ثورة غضبه التى لا أعلم بأى اتجاه ستسير.
لذا فقد أردفت بسرعة دون أن أترك له أى مجال:
"ثم أتعلم أن وراء كل لوحة مرسومة يقف شخص انتهازى يهدف إلى الاستفادة الشخصية بشكل أو بآخر؟
منحة مالية، أو أى نوع آخر من المنفعة الشخصية".
ثم جلست أنتظر ردة فعله الغاضبة، ولكم أن تتصوروا مقدار الدهشة التى أصابتنى عندما لم يحدث أى شيء من هذا القبيل. ولا حتى علامة غضب واحدة تظهر على قسمات وجهه ثم تعود لتختفى بفعل قوة الإرادة.. خيّم الصمت على جو الغرفة.. خُيّل إليّ أن هناك غمامة حزن خفيفة ترتفع لتلوّن بعضا من علامات التفكير التى ظهرت فوق جبينه.. تلك صورة جديدة متناقضة كليا مع تلك المزروعة والتى مازالت عالقة فى الزاوية الخلفية من وعيي.
ثم ارتفع صوته مخترقا نسيج الدهشة الذى كان قد غلف مداركى قبل أن يدق على طبلة أذني:
"ولكن الدوائر الرسمية يجب أن ترفع بعض صوري..".منتبها، بلعت ما بقى من آثار الدهشة لأجيب قائلا:
"تلك مسألة مختلفة، سيدى الرئيس، فأنت رئيس للجمهورية والقائد العام للقوات المسلّحة. وذلك يقتضى رفع صورتك فى كافة الدوائر الرسمية، وفى غرف كافة المسؤولين الكبار فيها.. تلك مسألة معروفة لا يختلف فيها اثنان".
ولم يقل شيئا آخر، ولم يعلّق بأى شيء، وبدا، وكأن الأمر قد انتهى عند هذا الحد.. استمع بكل رحابة صدر إلى نقد لاذع من شخص يخالفه فى الرأي، ولم يغضب، وانتهى الأمر عند هذا الحد.إلا أننى كنت مخطئا مرة أخرى، فالأمر لم يتوقف عند هذا الحد، علمت بعدها بأنه قد أمر بتشكيل لجنة رسمية لدراسة الرسوم والصور وتقييمها من الناحية الفنية ثم التخلص من أى واحدة لا تتوفر فيها المقاييس الفنية المطلوبة، وبالفعل بدأنا نلاحظ اختفاء الكثير منها بشكل تدريجي، حتى أنه لم يبق منها فى نهاية الأمر سوى النزر اليسير.
وعاد الصمت لينتشر فى جو الغرفة، إلا أنه لم يستمر سوى للحظات قصيرة قبل أن يصلنى صوته مرة ثانية ليحدثنى بذات النبرة المنخفضة حتى أنه خيل إليّ فى البداية بأنه قد انتقل إلى موضوع آخر مختلف:
"أتعلم يا إياد بأنى قد قرأت كافة مقالاتك؟ كل مقال لك نشر على صفحات الجرائد أنا قرأته بإمعان. لا كما يقرأ الإنسان كتابات الصحف، بل أستطيع القول بأننى قد درستها بإمعان شديد..
".أدهشنى كثيرا ذلك الذى قاله، فتحت فمى كى أشكره على اهتمامه ذاك إلا أنى عدت إلى إطباقه عندما سمعته يستأنف حديثه قائلا: "يجب أن تعلم يا إياد بأنى من المهتمين جدا جدا بالتاريخ..
"، ولكن أين هو "الرباط" كما نقول بالعامية، فأنا لا أكتب فى التاريخ فهو ليس اختصاصي.. قد استشهد به فى بعض الأحيان للبرهنة على صحة أو خطإ نقطة معينة، ولكنى لم يسبق لى الكتابة فى التاريخ.
لعله قد انتقل مرة أخرى إلى موضوع جديد، ولكن عندما عاد لاستئناف حديثه علمت أنه مازال فى ذات الموضوع، وأنه فى الحقيقة كان يريد الوصول إلى هدف معين كما سيتضح ذلك بعد قليل.
".. ويهمنى ما سيقوله التاريخ عني.
ومن خلال دراستى لكتاباتك، رأيت أنك خير من يتولى هذه المهمة.. أقصد مهمة كتابة تاريخ العراق الحديث.
فإنك تكتب بموضوعية وتجرّد، ما يهمك هو البحث عن الحقيقة ووضعها عارية أمام أعين القرّاء حتى وإن ألحق ذلك أذى بموقفك السياسي.. الذى يهمك هو تحديد أبعاد الموقف الوطنى من أى قضية ثم الأخذ به بغض النظر عن الشائع.
لكل هذه الأسباب والدواعى فإنى أرغب فى أن تتولى مهمة كتابة تاريخ العراق الحديث".مفاجأة مذهلة جديدة صدمتنى فى أكثر من موضع عاطفى وفكري، وألجمت لساني..
بقيت لفترة من الزمن وأنا صامت لا أفعل شيئا سوى النظر إليه.. عن أى شيء كنت أبحث هناك؟ ثم اكتشفت أن لسانى هو هنا.. ملتصق بسقف حلقي.. أجبرته على الحركة، علّه يقول شيئا، أيّ شيء، فقد استطال الصمت، وذلك ليس من اللائق فى شيء: "ذلك شرف كبير يشعرنى بالفخر والاعتزاز"، قال اللسان قبل أن ألحق به لأملك بناصيته، مردفا:
"تلك مسؤولية غاية فى الفخامة أخشى أن تكون أكبر بكثير من قدراتى الذاتية ومن إمكانيات قلمي.. مهمة بهذا الحجم ستحتاج إلى عدد كبير من المساعدين لإعداد المعلومات والبيانات".قال وهو يبتسم بجدية:
"من هذه الناحية لا تقلق، فعندما سيحين الوقت المناسب فإننا سنفرّغ لك مكتبا وعددا كافيا من الأشخاص لمساعدتك على جمع المعلومات اللازمة
ثم، وعندما لاحظ النظرة التى كنت أرمقه بها، أردف وقد زادت ابتسامته اتساعا:
"أعلم أنك تسأل؛ ولكن ماذا عن تلك المعلومات والحقائق التى لا يمتلكها الآخرون؟.
أيضا، ضع قدميك فى جردل من الماء البارد، سنغطى لك كل شيء، سنجلس طويلا مع بعض و"نسولف" -يعنى نتحدث- حتى لو امتدت "السوالف" على مدى ليالٍ وليالٍ.. لا يهم وسأزودك بكل ما تحتاجه من معلومات وحقائق".
ابتسمت بدورى وأنا أكرر على مسامعه ما سبق لى قوله من أن ذلك شرف كبير لي، عسى أن يوفقنى الله كى أتمكن من الاضطلاع بهذه المهمة الضخمة.
إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث، بل إننا لم نخط حتى ولا خطوة واحدة فى طريق انجاز المهمة، ومن جانبي، شخصيا، فإننى لم أهمل ولم أنس بل كنت أذكّره باستمرار بوعده، إلا أنه كان دائما يهز رأسه مؤكدا بأن الوعد سيبقى قائما، كل ما هنالك أنه ينتظر الفرصة المناسبة.حقائق تنسف التخمينات كنت أشعر باستمرار، وحتى قبل رحيلى عن العراق سنة 1970، بوجود دبوس مزروع فى مكان ما فى الخلف من مخي، وأنه بين الفينة والأخرى كان يعمل على وخزى وكأنه ينبهنى إلى أننى يجب أن أفعل شيئا للتخلص منه ومن وخزاته.
إلا أننى كنت أعلم-بطريقة أو أخرى- بأن حلّ مشكلته خارجة عن إرادتى وإمكانياتي. لذا فقد كنت أضطر إلى التجاهل دون أن أستطيع تشخيص نوعية المشكلة التى تقف وراء ذلك الدبوس، أو ماهية الدواعى والمسببات.
بعد فترة تأخذ حركته التخريبية داخل مخى فى الإبطاء التدريجى إلى أن يدفعه الإغراق فى النوم إلى مقبرة المهملات المنسية.
ومع ذلك كنت أعلم دائما بأنه مازال هناك فى مكان ما ملازما لى لا يريد مفارقتي، وأنه فى يوم ما ستعود الحياة لتدب فى طرفه المدبب. قلت له فجأة وبدون أى مناسبة:
"أتذكر آخر مرة التقينا فيها فى الوكر فى عام 1959"؟
- وهل تلك مسألة من الممكن نسيانها؟
- فى اليوم الذى قبله أعلمتنى وأنا فى طريقى إلى دروب بغداد وأزقتها بحثا عن طبيب يقبل بالمجيء إلى الوكر لمعاينة سمير الذى كان قد أصيب بطلق نارى فى صدره، أعلمتنى أنك أنت أيضا مصاب بطلق نارى فى ساقك، ثم بادرت إلى الكشف عن ساقك كى أشاهد رأس الطلقة المدبب ظاهرا للعيان.
وعندما أخبرتك بأنى خارج للبحث عن طبيب، هززت رأسك ثم قلت كما لعلى مازلت أتذكر:
"غير مهم، أعتقد أنى باستطاعتى انتزاعها بنفسي".
وفعلا وجدتك قد فعلت ذلك عندما عدتُ فى صباح اليوم التالى بصحبة الدكتور تحسين معلة، بعدها افترقنا.. أنت فى طريقك إلى الخارج نحو القاهرة، وأنا باتّجاه محكمة المهداوي.
وعلى امتداد تسع سنوات تقريبا لم يصادف أن التقينا حتى ولو لمرة واحدة، رغم أنك كنت قد عدت إلى الوطن عام 1964 أو 1965، ورغم أننا كنا نعمل فى ساحة واحدة ولكن باتجاهين مختلفين..أمر غريب بالفعل، بل إننا فى الحقيقة والواقع لم نلتق على مدار 44 عاما، أى منذ عام 1959 وحتى هذه السنة 1992، سوى مرة واحدة عندما جاؤوا بنا إلى مقر القوة الجوية بعد إطلاق سراحنا من السجن فى يوم 30 تموز عام 1968، كما لعلك مازلت تذكر، وحتى فى تلك المرة اليتيمة فإن اللقاء لم يستغرق سوى دقائق معدودة، وكان ذلك.."، توقفت فجأة عن الكلام، خُيّل لى أنه قد قال شيئا ما لم أسمعه جيدا "عفوا، لم أسمع.."، ولسبب ما غير واضح أحسست بنبضات قلبى وهى تتسارع.بإيجاز، وبلهجة هادئة أعاد تكرار الكلمتين اللتين ظننت أنى لم أسمعهما "بل مرتين". - ماذا؟!
- وعندما بقى صامتا لا يريد أن يزيد، أحسست بنوع من الذهول يداهمنى ويربك تفكيري:
"بل مرة واحدة لا غير، وتلك كانت..".
- بل، مرتين..
- ولم يزد..
- "ولكنى لا أذكر سوى تلك المرة، فإذا كانت هناك مرة أخرى، فإنى سأكون..
"تركت الجملة، هكذا، معلقة ومغلفة بالذهول الصامت، تاركا له الخيار فى طريقة ملء الفراغ.
إلا أن الفارغ لم يملأه سوى الصمت الثقيل.. الناطق. كنت أعلم، فى داخلي، بأنه لن يجيبنى بأكثر من ذلك. وفى الحقيقة، فإنه لم يكن بحاجة لأن يضيف شيئا".
الصمت الثقيل كان يكلمني.. يبعث برسائله لتنبش فى الشكوك القديمة التى حملت بعضا منها فى اللاوعى من مدة تقرب من الربع قرن، بالإضافة إلى الأخرى الحديثة المرتبطة بالقديمة بطريقة ما، باعثة فيها الحياة والحيوية.
- أرسلت إليه نظراتى عبر الصمت لتكلمه
"صدام، هى مرة واحدة يتيمة، فلماذا كل هذا الإصرار؟
" إلا أنه تجنب النظرات، ولم يجب "طيب على الأقل أخبرنى شيئا عن هذا اللقاء الثاني، متى حدث، وأين"؟
إلا أنه أصرّ على صمته، لعلّه اعتقد بأننى أملك من الذكاء ما سيمكّننى من رؤية الحقيقة بمنتهى السهولة.. خطأ، إذ حتى لو كنت أملك شيئا منه فإنه كان، فى تلك اللحظة، قد غلفه نوع من الذهول أغلق المنافذ وجعل سبل التفكير تتقاطع، بل ولربما حتى تتعاكس فى بعض الأحيان. الشيء الوحيد الذى أصبح واضحا فى وعيى أنها كانت مرتين وليست واحدة فصدّام بعد كل شيء، لم يكن من نوع الرجال الذين يطلقون الكلام جزافا، إنه يختار كلماته بعناية فائقة، لأن كل كلمة يختارها سيكون لها معناها وهدفها المدروسين.. أُسقط فى يدي، ولم يعد أمامى شيء أفعله سوى أن أعصر مخى أكثر لعل الذاكرة تعيننى على تذكّر شيء، أيّ شيء يفتح أمام عقلى بعض المنافذ المغلقة.- وكان لا بد بعدها من أن يتجه بى التفكير نحو تلك الشكوك، القديمة منها والحديثة، المخزونة فى مستودع النسيان.. أقلّبها.. أفتشها.. علّ ذلك يقول لى شيئا جديدا لم ألتفت إليه فى وقتها. لنحاول أن نمسك بها منذ البداية، ولكن متى كانت البداية، وأين؟ أذكر أنه كان لها علاقة بتلك الزيارة الغامضة التى تلقيتها فى بيتى من قبل ذلك الملثّم ذى الملابس العربية. لقد حضر ليطلعنى على قرار القيادة بتصفيتى جسديا. أعتقد أن تلك كانت هى البداية، إذ أننى لم أتوقف فى وقتها عند هذه المسألة الخطيرة طويلا كى أدرسها بعناية أكبر.. من أين تراه قد حصل على نص القرار؟
خمّنت أن واحدا من أعضاء قيادة الحزب لا بد أن يكون هو من سرّب الخبر إليه.. لم أتوقف أكثر لم التفت.. اكتفيت، لأواصل مسيرتى مع الحياة. إلا أن شعورا بعدم الرضا.. بعدم القناعة انبعث فى داخلي، تلك النتيجة التى خمّنتها على عجالة، وتقبلتها على أنها كانت تعبّر عن الحقيقة يبدو أنها قد دخلت إلى عقلى مصحوبة بكمية كبيرة من الشك فى أنها قد لا تكون كذلك، وهى ليست كذلك بكل تأكيد، كما أستطيع أن أراها الآن بوضوح شديد:
ذلك الشخص الملثّم الذى زارني، لا يمكن أن يكون قد سمع بالقرار من شخص آخر، فالأمور لا تجرى على هذه الشاكلة على أرض الواقع، خصوصا فى مثل هذه الأمور الخطيرة فى حزب تمرّس فى العمل السري.. تسرّبٌ من هذا النوع لم يحصل أبدا فى أى قضية مشابهة لتصفيات جسدية عديدة حدثت فى الماضي، رغم أن بعضا منها استهدف بعض القياديين فى حزب البعث.. لا.. أبدا، ذلك الشخص لا بد وأن يكون عضوا من أعضاء الدائرة الضيقة التى اتخذت القرار، أى واحدا من أعضاء القيادة القُطرية ذاتها.انجلاء الغشاوةلماذا ترانى أستطيع أن أرى اليوم بوضوح شديد ما كنت أعجز عن رؤيته بالأمس، أو بعبارة أصح، ما لم أكن أرغب فى رؤيته بالأمس.. الأمر بسيط لا تعقيد فيه، فقد أصبحت أعرف اليوم ما لم أكن أعرفه بالأمس، وعندما تسحب هذه المعرفة على تلك الواقعة القديمة فإن الحقيقة ستسطع كما الشمس فى رابعة النهار. لقد أصبحت أعرف اليوم أن صدام حسين، الذى كان يسبح مع التيار الأمريكي، ويختفى بين طياته، كان فى واقع الأمر صاحب مشروع وطنى ضخم للغاية، وأنه كان يعمل، منذ البداية، بصبر وكفاءة وذكاء نادر على إنضاج التيار الوطنى الذى يجسّده ويقوده استعدادا لمجيء اليوم الذى سيتمكّن فيه من قلب الطاولة على الأمريكان وعملائهم. وهو ما شاهدناه يحدث على أرض الواقع.
فى ذلك الوقت المسألة الواضحة والتى تمثل الحقيقة الناصعة فى رأى كافة القوى الوطنية العراقية، ونحن منها، أن حزب البعث كان يمثل الجناح الأمريكى فى انقلاب 1968، ولذا فقد كان من الصعب جدا عليّ التفكير بأن عضوا فى قيادة الحزب من الممكن أن يكون له موقف مخالف، وأيضا، لأننى كنت نفسيا مغلقا ضد تفكير من هذا النوع، لذا فقد خمّنت واكتفيت بذلك.
المعرفة الحالية كانت تتضمن أيضا بعض العلامات والإشارات التى لا تدع مجالا للشك عند سحبها إلى الماضى كى يتم ربطها ببعض مما جرى فى ذلك اللقاء القديم -اللّقاء الثاني- بأن الشخص الملثّم ذى الملابس العربية الذى زارنا كان هو صدام حسين بعينه، ولا أحد آخر سواه. إذ ما الذى قاله الملثم لتبرير زيارته التحذيرية؟ "أنت شخص مشهود لك بالوطنية، ونحن لا نريد أن يحدث لك.. الخ".
ألم تكن هذه الكلمات تكاد أن تكون هى ذاتها التى قالها صدام فى تبرير رفضه لمشروع تصفية صلوح عمر العلى الذى طُرح عليه؟..انظر إليه الآن وأنا جالس أمامه بعينين قد فتحتا على مصراعيهما على الحقيقة، فاستغرب كيف أننى لم أنتبه قبل ذلك إلى نقاط التشابه الواضح بينه وبين الملثم الزائر، فالطول واحد.. صحيح أن بضعة كيلوجرامات جديدة قد أضيفت إلى وزنه تجمّع أغلبها فى بطنه لتكوّن بعض التكوّر الملحوظ، إلا أن ذلك "غير مهم"
-عبارة يكثر صدام من استخدامها- الأهم من كل ذلك هو العينان، إنهما ذات العينين السوداوين اللتين تقذفان بنظراتهما النفّاذة كلما أراد أن يبلّغ أحدا رسالة من رسالاته الصامتة.إنه هو نفسه.. صدام حسين من جاء ليحذّرنى غير مبالٍ بما قد يتعرض له من مخاطر..
إنه أنقذ حياتي،
وأنا مدين له بذلك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق