الأحد، يناير 25، 2009

ماركريت شكري في ذمة الخلود وروح عزيز شكري تستيقظ




د عمر الكبيسي


هذه الفتاة الواقدة والجميلة القادمة من الموصل الى بغداد في نهايات العقد الثالث من القرن المنصرم بعد ان اكملت دراستها الثانوية وقبلت في كلية الطب كتب لها ان تكون واحدة من اعلام الطب النسائي في العراق لاكثر من خمسين عاما وواحدة من اكثره شهرة وكفاءة ليتزامن عطاءها مع د. جورج حيقاري الاستاذ الدكتور كمال السامرائي ولميعة البدري وامنه صبري مراد ومنيره البستاني وفؤاد مراد الشيخ وانه ستيان وسالم الحيدري وانور القيماقجي رحمهم الله جميعا.ومن ثم مع استاذنا الدكتور فؤاد حسن غالي وسيرانوش وهانئة الخوجه وفايزه كابان أطال الله بعمرهم والكثير من اعلام هذا الاختصاص المهم والمبدع في مسيرة العراق الطبية الزاهرة .
ولتقترن حياتها ومسيرتها مع مسيرة زوجها المرحوم ألاستاذ الدكتور عزيز محمود شكري الجراح المبدع والشهير في أبرز قصة لقاء وحب وزواج هانئ وسعيد تجاوز الاعراف الدينية والإجتماعية والعائلية كأكبر دليل على اندماج المكونات الدينية والعرقية في عراقنا الأشم لتاريخ طويل.
قبل سنة التقيتها في عمان مع ابنتها بسبب الوحدانية وحالة الوجد التي خلفها لها الاستاذ عزيز بعد رحيله وشكت لي صعوبة العيش التي تواجهها بعده سواء في اميركا او انكلترا حيث يتواجد ابنها د سعد او ابنتها الدكتورة سلوى واللذان بالغا في رعايتها ومداراتها كام فاضلة تستحق كل الرعاية ، لم تكن ماركريت بحاجة الى مال اوجاه وكان ابناؤها واحفادها جنبها وحولها ، ماكانت تفتقده ماركريت هو بغداد والعراق الذي اعطته واعطاها وخدمته فاعزها . شاهد ت ماركريت وعزيزشكري احتلال بغداد ودوهمت دارهما الفارهة على ضفاف دجلة في الاعظمية من قبل قوات الاحتلال واستمر عزيز شكري يتبوأ مهامه الاكاديمية كرئيس للهيئة العليا للإختصاصات الطبية وحاول في حينها طاقم القادمين على ظهر الدبابة الامريكية والمستشار الامريكي لشؤون التعليم معهم ابتزاز مسيرة هذه الهيئة والمساس بمستواها العلمي من خلال أمركة التعليم الطبي التخصصي وكنت حينها مشرفاً على اختصاص امراض القلب وراحوا يحاولون حذف بعض مستلزمات التخرج كحذف شرط تقديم اطروحة البحث قبل اداء الامتحان النهائي بحجة عدم الحاجة لها كما في اميركا وبلغوا الطلبة كمحاولة لكسبهم بعدم الإستمرار بالبحث ، ولكنَّ عزيز أصرَّ إصرار المقاومين على الإستمرار بالبحث وكتابة الأطروحة وكان له ما أراد . وصمد عزيز ومعه ماركريت على البقاء في بغداد وتخريج دورة الأحتلال من الطلبة بالرغم من محاولات إذلاله واضطهاده فمنعوه من العمل في جناح التمريض الخاص الذي قدم فيه عزيز لعقد من الزمان قمة عطاءه الجراحي بابخس الاجور التي لاتتناسب مع أجور المستشفيات الخاصة واصدر وزير صحة الاحتلال الاول امرا بمنعه من العمل فيه فلم يكل هذا الجراح المبدع ولم يبزع من فداحة المعاملة فانتقل بعمله الى مستشفى الوزيرية الخاص للعمل فيه واستمر بعطائه الى آخر لحظة في حياته بالرغم من كل منغصات الاحتلال وتعامله . وبالرغم من اصابته بنوبة قلبية حادة ودخوله مشتشفى بن البيطار ونصحي له بالسفر لاجراء فحوصات والتاكد من عدم احتياجه لتداخل جراحي الى اميركا حيث يتواجد ابنه سعد واتفقت مع ابنه د. سعد على سفره لغرض ابعاده عن ظروف الاحتلال القاهرة ولكنه أصر على البقاء كعادته وهو الذي كثيرا ما يرفض الايفادات والخروج من العراق او التمتع باجازات خارج العراق كان رحمه الله يقول "السفر خارج العراق سجن لي ".
شهدت ماركريت التي واكبت مع عزيز كل مسيرته المتعبة والمليئة بالاحداث والاستدعاءات والاستشارات الجراحية والطبية حيث اعتاد ان يكون الاستشاري الحاضر ليل نهار لكل الألتزامات الطبية للرؤساء والقادة والمسؤلين والشخصيات والرموز العراقية عند كل طارئ طبي اضافة الى عمله العام وقوائم العمليات الكبيرة والطويلة اليومية التي يجريها لم يضنِ عزيز هذا الجهد الكبير والعطاء المتواصل بالرغم من تقدمه في العمر ليجتاز الثمانين ولكنه أضنى ماركريت التي انكمشت وبان عليها الاعياء وانحنى ظهرها وتوقفت عن العمل الطبي قبل عزيز بسنوات ولم يعد لها من هم الا متابعة حالة عزيز الصحية ومسيرته والاشراف على علاجه وهي تسجل باصابعها الناعمة وخطها المرتجف تعليمات تناول الدواء وكميته حسب تعليماتي بلا ملل او كلل . ووقف عزيز في اخر ايامي معه وكانت ماركريت شاهدة بين المدعويين منتصبا في قاعة مدينة الطب ليرعى تخرج اخر دورة من الاختصاصين وامام فخره وصموده بانجازات الهيئة وخلال القاء كلمته وهو يرتدي بزته الجامعية وهو يشاهد تقلص كوادر ومشرفي الهيئة بعد عمليات القتل والتهجير ونكبات الاحتلال ووجوها من المسؤولين غير تلك التي اعتادت ان تحتفي به قبل ان يحتفي بها في هكذا مناسبات ،فضاقت نفسه وخفت صوته وانحبست كلماته وكاد ان يقع لولا اختصاره الحديث وجلوسه ولكنه استمر بحضور الاحتفال حتى انتهائه واخذته بمعيتي الى المستشفى وتم علاجه في حينها واستمر بعدها بعطائه. كان اخر لقائي به بعدها في دار الأستاذ صبحي عبد الحميد ( زوج اخته ) وعزيزه عندما أصر على سفري بعد إستلامي لتهديدات بالمغادرة والا التصفية . كان هذا وداعي له وما هي الا ايام قلائل لينقل الى خبر وفاته وانا في عمان وكالعادة مات رحمه الله بصمت وتحجيم مطبقين من قبل حكومة الاحتلال مع انه كان استاذا لكل جوقلة الاطباء القادمة مع الاحتلال من ساسة العراق الجديد بلا وفاء او تقدير, ونعيته مع زملائي من الاطباء المهجرين في حينها من عمان بصحيفة عربية في حين وكما ذكر الدكتور نهاد الراوي نائب رئيس الجامعة في حينها الذي اغتيل بعدها على ايادي الغدر ان الوزارة والجامعة لم تحرك لوفاة عزيز ساكنا ولم تقم بنعيه كما يجب .
وما كان لماركريت بعد وفاة عزيز من بقاء لوحدها في تلك الدار التي كانت لعزيز بصماته ولمساته في كل طابوقة وزاوية فيها, تركت بغداد والدار وكل ذكرياتها وعزها و مجدها لتلتحق باحفادها وابنها وابنتها تارة في اميركا وتارة في بريطانيا وبالرغم من محاولاتهما التعويض عن فقدان ابيهما بقيت ماركريت في شدة من الحزن العميق والتيه المستمر .
قريبا من العراق جاءت بها سلوى الى عمان كمحاولة للتخفيف من اكتئابها وللترويح عن ضنكها وزارتني مع مجموعة الاطباء العراقيين في مستشفى الاسراء واحتفى بها طلبتها والتقطنا في حينها معها الصور ولكن لسانها وكلامها وفكرها كان هناك في بغداد حيث يرقد عزيز ويرقد التاريخ والمجد والعز فتتعثر الكلمات وتنساب الدموع وتتوقف دورة الحياة . كان قلبها النابض بالشبابية قد اضطرب وضغط الشرايين قد ارتفع ولكن الذاكرة حية والامل بالعودة الى ضفاف دجلة حيث دارها المتيم ينتظر وهي تذكر تفاصيل مقتنياتها واثاثها كيف تركت واين اخفيت واخبار سائقها وحارسها وتفاصيل حياتها وذكرياتها وتقص على قصة حبها وزواجها وعلاقتها باهلها وعائلتها وما ترتب عن زواجها في حينها.
في كل مرة كنت ازورها في فندق ريجنسي كنت اجدها تنتظرني مع سلوى في صالة الاستقبال في كامل اناقتها وهيبتها اجدني تلقائيا مرغما لاداء التحية العسكرية التي تعودت من خلال خدمتي العسكرية ان اؤديها للقادة وكأنها قائد او زعيم تحتوي في جنباتها ذلك الجراح الفذ والمعطاء الكبير عزيز شكري بل هكذا كانت حياة الاثنين في مسيرتهما الطبية والعلمية.
في أواخر سنوات النظام السابق أذكر جيداَ اننا أبلغنا كأطباء بأمر رئاسي اصدره المرحوم صدام حسين بوجوب وقوف كل الاطباء احتراما للاستاذ د.عزيز شكري اينما تواجد ومع اننا كنا نفعل ذلك جميعا لعزيز قبل ان يصدر هذا الامر ولكنني وجدت في هذا الأمر تاسيسا لاحترام العلم وتقليدا ينطوي على حكمة الاعتراف بالجميل واعترافا بهيبة العلماء ولم يقتصر صدام رحمه الله في تعامله مع عزيز بمثل هذا النهج بل كانت له لقاءته الخاصة وتقديراته لاعلام الطب وشخوصه العريقة بين اونة واخرى يستمع لنقدهم ويصغي لمقترحاتهم وهو الذي ابدى لمجموعة المحالين منهم على التقاعد في السبعينيات من كلية الطب في حينها بناء على توصيات من داخل نفر من الاسرة الطبية أبدى أسفه وأعتذاره المتأخر عن هذا القرار واعاد من تبقى منهم الى وظائفهم وتلك حقيقة تعد ُّ مأثرة لهذا الرجل لا مثلبة كما يحاول البعض ان يعدَّها إذ ان القائمة لم يكن لها لون ولاطعم طائفي وسياسي وتحسب اثارها السلبية على المسيرة الطبية واحدة من اسقاطات التنافس والنكاية من بين ضعاف النفوس التي لم تسلم منها الاسرة الطبية على مر التاريخ بدافع القرب والبعد من الخليفة والسلطان, على ان رموزنا الطبية المعروفة وعزيز واحد منهم لم يكن طرفاً في هذه الحادثة والكل ممن لحق به الاذى من هذا القرار يدرك ذلك على ان هذا الأذى قد لحق بأهله حتى قبل سقوط النظام.
اليوم رحلت ماركريت شكري بعيدة عن اهلها وتلامذتها وبيتها وعراقها لتدفن في احدى مقابر لندن ولولا بقية خلف صالح لهذه العائلة الطبية العريقة المعطاء متمثلا بسعد وسلوى لكنا قد طوينا واحدة من بيوتات الطب المعاصر التي قد لاتتكرر.
لقد اغنى عزيز وماركريت الطب العراقي بالعطاء والمريض العراقي بالشفاء وقد اغنى العراق طيلة فترة حكمه الوطني عزيز وماركريت بالشهرة والوفاء والثناء ، أما ما فعله الاحتلال وعملاؤه ويفعله اليوم برموزنا وكفاءاتنا الطبية والعلمية فلم يعد سرأً ان هذا الفعل ليس من صنع العراقيين وفعلهم بل هو جزء من مخطط التفتيت وإفراغ العراق واضعافه من طاقاته وثرواته وكفاءاتة ووحدته وسيادته .
ان اليوم الذي سترجع فيه كفاءاتنا ورموزنا قريب واليوم الذي سيغادر فيه الاحتلال وشيك ,عهد برقاب المحررين ان تجمع رفاة من قبرنا من كل صوب وحدب لتعطر بها تربة العراق اعترافا بفضل عطائهم وطيب ذكرهم وحسن فعلهم ورد الجميل لذويهم واهلهم.
رحم الله ماركريت وعزيز شكري في مثواهم وجزاهم الله عنا خيرأ في مأواهم .

ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار