د. سيّار الجميل
كان من أبرز الأمور التي خرج بها مؤتمر "الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي"، الذي انعقد في الدوحة من قبل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 6-8 أكتوبر 2012، جملة من المفاهيم التي قدمها في افتتاح المؤتمر واختتامه المفكر العربي المعروف عزمي بشارة، إذ أكد عليها تأكيدا خاصا باعتبارها ركائز أساسية من أجل إعادة تأسيس فهمنا العربي الحديث للمسائل العالقة، ومعالجة المشكلات الصعبة في دولنا ومجتمعاتنا، وخصوصا تلك التي تعيش أزمات ساخنة جراء عدم فهم الأسس والثوابت السياسية على أرضية صحيحة.
ودعوني أتوقف قليلا عند أحد المفاهيم التي طرحها الدكتور بشارة ويدور حول "الأغلبية والأقلية"، إذ لا يمكن أبدا استخدام كل من هذين المصطلحين في أي مجتمع من المجتمعات، للتفرقة على أساس الدين أو العرق أو المذهب أو الطائفة أو الثقافة.. الخ، وإلا نكون قد أدخلنا أنفسنا في مأزق تاريخي خطير، كما حدث في لبنان والعراق، وما يمكن أن يكون عليه الحال في بلدان عربية أخرى.
إن قياس "الأغلبية والأقلية" لا يتم إلا على أسس سياسية، سواء في الحياة العامة، أو الانتخابات والبرلمانات، ولا يمكن أن يتم على أسس متمايزة اجتماعيا، وإلا نكون قد طعنّا في مبدأ المواطنة طعنات تسبب جروحا لا تندمل أبدا.. إن المواطنين في أي بلد من البلدان متساوون في الحقوق والواجبات. فلا يمكن باسم الأغلبية الدينية أو الطائفية أو العرقية، أن تحكم فئة لوحدها إلى الأبد على حساب بقية الناس المواطنين، الذين ينتمون إلى أديان أو مذاهب أو طوائف أو أعراق أخرى.. وعليه، لا يمكننا أبدا الاعتماد على أحزاب دينية أو طائفية أو عرقية هدفها الأساسي شق صف الوحدة الوطنية، باسم أية أغلبية على حساب بقية الأطياف الأخرى.
إن ما يعمل به في أعرق البلدان الديمقراطية، هو تصنيف الأغلبية والأقلية على أساس سياسي، بالانتماء إلى هذا الحزب السياسي أو تلك الكتلة السياسية، وليس إلى الأغلبية الطائفية أو القومية أو الدينية. إن هناك جملة من المفاهيم السياسية الخاطئة، التي غرست في حياتنا السياسية العربية، وحتى في حياة وتفكير أبناء العالم الإسلامي على امتداد القرن العشرين، بل وساهمت النخب السياسية والمثقفة في تكريس الأخطاء، من دون الاستعانة بحداثة "المفاهيم" التي تمارس في مجتمعات أخرى في العالم، كان لها نصيب من التقدم السياسي على مستوى الفكر أولا والواقع ثانيا..سواء كان ذلك في دول أوروبا أو في أميركا الشمالية، وحتى أميركا الجنوبية. وعلينا أن نعلم جميعا بأن لا دولة حديثة اليوم تتميز بتفوقها السياسي، تعمل بالتمايز أو تفرق بين مواطنيها كأكثرية وأقليات ضمن اعتبارات موروثة وخاطئة، فالدولة ينبغي أن تخدم كل مواطنيها، والمواطنة لا تفرق بين الناس إلا من خلال ما ينتجه أو يبدعه أو يقدمه كل مواطن لمجتمعه.
وعليه، فإن الفكر السياسي الحديث لا نجد فيه مفهوم أغلبيات وأقليات تعتمد التصنيفات المعتمدة في دولنا ومجتمعاتنا.. وليس من المصداقية والعدل أن تؤلف أحزاب دينية أو طائفية أو عشائرية للاشتغال بالسياسة، إذ تنتفي هنا صفة الأحزاب السياسية المدنية الحقيقية، التي لا تنتج أية تخندقات طائفية أو دينية أو عرقية أو قبلية تعمل على تمزيق المجتمع وتفسخه. إن ما حدث في كل من لبنان والعراق وما يحدث اليوم في بلدان أخرى.. وما يعم المنطقة بأسرها من اجتياح أوبئة المجتمع وجعلها مقاييس سياسية في مثل هذا العصر، سيأخذ مجتمعاتنا إلى الجحيم بعينه!
في المجتمعات الأخرى المتقدمة سياسيا، تجد الانتخابات سياسية محضة، ويتم اختيار المسؤولين والزعماء اختيارات سياسية أو تكنوقراطية أو براغماتية، بعيدا عن أية هوية أو انتماء باستثناء الهوية الوطنية والانتماء للحزب السياسي. وكان على مجتمعاتنا أن تتطور فيها هذه النزعة التي عرفتها قبل خمسين أو ستين سنة..في حين نشهد اليوم صراعات قاسية لسيطرة الأغلبية الدينية أو الطائفية أو العرقية، على الأقليات (كما يصفونها ويقللون من شأنها ودورها)، بل إن معالجاتهم التي ابتدعوها باسم الشراكة والتوافقية والمحاصصات سوف لا تنجح فحسب، بل ستزيد الانقسامات وإشعال الحروب وغلو الثارات وانفجار الصراعات.
لا مجال لكي يتعصب المرء دينيا أو مذهبيا أو طائفيا إن كانت الفرص متاحة للجميع سياسيا، وبعيدا عن أية انتماءات أخرى.. إن الاقباط في مصر أو المسيحيين في العراق، مثلا، لا يمكنهم أن يقبلوا جعلهم أقليات وهم مواطنون حقيقيون.. إن المواطنة تبيح للجميع أن يتكلم سياسيا، ولكن ليس باسم أكثريته أو أقليته. في عمله الشهير "السياسة كمهنة"، عرّف رائد الفكر السياسي الحديث ماكس فيبر الدولة بأنها "الكيان الذي يحتكر الاستعمال الشرعي للقوة الطبيعية في المجتمع السياسي، وليس لأية قوى أخرى قد تكون غير متوازنة، فتكون سببا في تفجر المجتمعات من داخلها".. وأصبح هذا التعريف محوريا في دراسة علم السياسة الحديث.
إن مجتمعاتنا العربية ينبغي أن تتعلم من دروس التاريخ أولا والعالم ثانيا، فإنها إن اعتمدت التقسيمات التاريخية والتصنيفات الاجتماعية مجالا للعمل السياسي، فسوف تغرق في دوامة من المعضلات الصعبة التي يصعب التخلص منها، خصوصا وأن مجتمعاتنا غير متجانسة من نواح كثيرة، ولن يجمعها مع بعضها الآخر إلا المواطنة. إن أية تخندقات تعتمد انتماءات وهويات اجتماعية وتاريخية غير سياسية، هي التي ستفجر المجتمع وتضيعه في متاهات صعبة لن تخرج منها الأجيال القادمة. فمتى سنعيد التفكير في تقويم فكرنا السياسي الحديث؟ ومتى ستتم معالجة ذلك معالجات حقيقية في واقعنا المضطرب؟
نشرت في البيان الاماراتية ، 16 اكتوبر / تشرين الاول 2012 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق