إضاءات من رابطة الدبلوماسيين العراقيين
جرى مؤخّراً تداول مقال بقلم السيد علي بابان، وزير التخطيط السابق في الحكومة التي نصبتها سلطة الاحتلال، تناول قضية خطيرة من القضايا التي تواجه ابناء العراق وهي قضية المياه تحت عنوان ( نهري دجلة والفرات ) . لا يخلو المقال من اشارات مهمّة الى خطورة واقع المياه وما تحمله من النتائج الكارثية على نوعية الحياة في العراق. لقد ورد في المقال جملة من الحقائق ولكنه أغفل حقائق أخرى، لا نعتقد انها غائبة عنه ولكن لربما تعمد ذلك لمقتضيات الوضع الحالي ومن جملة هذه الحقائق، جهود الحكومات الوطنية العراقية المتعاقبة حتى الاحتلال عام 2003، ومدى استشعارها في وقت مبكر لخطورة المخطط التركي لبناء مجموعة من السدود العملاقة على منابع حوض نهري دجلة والفرات. وكذلك أغفل السيد الوزير السابق جهود تلك الحكومات في بناء السدود العديدة لخزن المياه وعدم تبذيرها لأستغلالها في الاوقات المناسبة والمشاريع الاروائية الكثيرة التي توقف معظمها أو جرى تدميره عمداً اثر الغزو والإحتلال الأمريكي للعراق ومجئ اشخاص لا يهمهم من مصلحة البلاد شئ فهم منغمسون في محاصصاتهم الطائفية وفي توظيف مقدّرات البلاد لمآربهم الشخصية.
وإدراكا من رابطة الدبلوماسيين العراقيين لحاجة ابناء شعبنا المنكوب والمغيّب أن تُذكر له الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع وما قامت به الحكومات السابقة، من جهود ومساعٍ لحماية حقوق العراق ومستقبله وهي جهود توقفت بل تلاشت بمجئ الإحتلال ومن نصبّهم لحكم البلاد، فإننا نودّ أن نبين بإختصار ودون الدخول في التفاصيل والوقائع الكثيرة والمتشعبة وكذلك في تفاصيل القواعد والأطر القانونية، الحقائق التالية:
حقيقة أساسيّة : ان قضايا المياه كانت الشغل الشاغل للعراقيين منذ فجر التاريخ ولاحاجة لنا أن نذكر أن أهم المكتشفات والاختراعات في بلاد الرافدين قد شكلّ موضوع الاستفادة من المياه والسيطرة عليها، الهاجس الاساسي فيها. وكذلك ما قام به الخلفاء العباسيين من جهود شاخصة لحد الان ثم ما قامت به الدولة الحديثة في العراق اذ أن أولى المشاريع الاروائية في المنطقة هي مشاريع عراقية منذ عام 1911 والاعوام التي تلته ولم تتوقف مشاريع المياه حتى خلال إنشغال العراق بالدفاع عن نفسه في الحرب التي شنّتها ايران ضدّه، اذ جرى تنفيذ أهم السدود التي تعتمد عليها السياسة المائية العراقية حتى الان وكثيرُ منها صمّم ونفذّ بعقول هندسية عراقية مائة بالمائة، واستمر عمل الكوادر العراقية في زمن الحصار في تنفيذ سدود ومشاريع أخرى مهمة منها مشروع النهر الثالث الذي وصفه وزير المياه ( العراقي ) بعد الإحتلال 2003ـ 2011، السيد عبد اللطيف رشيد بانه اهم وأضخم مشروع في العالم ( جاء ذلك في ندوة جانبية ضمن المؤتمر الدولي للمياه الذي عقد في مراكش في شهر تشرين الاول ـ نوفمبر 2011 ـ طبعا لا يجرؤ السيد عبد اللطيف ان يعلن ذلك داخل العراق مثلما لم يجرؤ السيد بابان ان يذكره في مقاله ) .
الحقائق الأخرى :
أول ا: ان العراق وتركيا ارتبطا عام 1946 بمعاهدة الصداقة وحسن الجوار، السارية المفعول.
وضمت المعاهدة ستة برتوكولات هي التي رسمت ونظّمت، منذ ذلك الوقت ولحد الآن، معالم العلاقة العراقية –التركية في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية وقضايا الحدود. أمّا المياه فقد نظمها البرتوكول الأول الملحق بالمعاهدة. يتضمن البروتوكول قواعد متقدمة على عصرها فيما يتعلق بكيفية تنظيم الإنتفاع بمياه دجلة والفرات ويثبّت للعراق حقوقاً واضحة خاصة فيما يتعلق بالموقف من تنفيذ اية منشآت في الأراضي التركية اذ ينص البروتوكول على ضرورة المشاركة العراقية الفعلية في تلك الإنشاءات بما " يجعلها تخدم مصلحة العراق مثلما هي تخدم مصلحة تركيا". وكما يلاحظ ان هذه الإتفاقية تتقدم على حلف بغداد بعشر سنين تقريبا. ونود أن نشير هنا أن الإنتهاك التركي الأول لهذه الإتفاقية كان بعد أن تمّ التوقيع على حلف بغداد ـ سيئ الصيت ـ الذي يحنّ اليه السيد بابان. لقد بدأت تركيا بتنفيذ أول السدود على نهر الفرات ـ سد كيبان ـ عام1957 ضاربة عرض الحائط ما نصّ عليه برتوكول المياه من ضرورة ان يكون تنفيذ اي انشاءات بمشاركة العراق وبما يخدم مصالحه ايضا ولم تستجب تركيا لطلبات العراق التي بدأت منذ علمه بالخطة وقدّ أضر السد كثيراً ـ كما سنرى ـ بمصالح العراق.
ثانيا : القول ان الدولة العراقية كانت نائمة طوال السنين التي جرى فيها تنفيذ المشاريع التركية، قول يجافي الحقيقة تماماً، ولعله اصبح ـ موضة ـ سياسيو ما بعد الإحتلال، فهم يبرّرون للدول الأخرى كل إنتهاكاتها بحقّ العراق على اعتبار ان الدولة العراقية ـ قبلهم ـ لم تكن موجودة وهم يحاولون انشاءها الآن، وان السياسة العراقية قد انتهت بعد نوري السعيد مما يتطلب استنساخه !!! ....وهذا تبرير آخر لما حصل من تدمير لمؤسسات الدولة العراقية بعد الإحتلال وانغماس الساسة بمصالحهم الشخصية البحتة تاركين جانباً المصالح العاليا للبلاد وحقوقها ومنها حقوقها في مياه نهري دجلة والفرات. إن الوقائع تدل انه منذ الإعلان الأول عن مشروع سد كيبان والحكومات العراقية المتعاقبة تحاول كل ما في وسعها إقناع الأتراك بتعديل خططهم ومشاريعهم، بما يحقق مصالح تركيا ولا يضرّ بحقوق العراق، علما ان نهري دجلة والفرات لم يكن يمثلان حاجة أساسية لتركيا قدر كونهما مسألة حياة او موت بالنسبة للعراق، والمشاريع التركية هي مشاريع سياسية بالدرجة الأولى بغلاف تنموي....وعلى اية حال انها حق تركي لكن كان يجب ان لا يتوسع ليلحق أضراراً جسيمة متعمدة بجيرانها، العراق وسورّية.
ثالثا : من الواضح في اعلاه ان المشاريع والإنتهاكات التركية لحقوق العراق قد بدأت في أواخر الخمسينات وليس في الثمانينات والتسعينات كما يشير السيد بابان ويتحفنا بقوله ان الدولة العراقية كانت في غرفة الإنعاش وأن ذلك كان هو سبب تنفيذ هذه المشاريع. بل ان تركيا قد بدأت بالتحريات الأولية والمسوحات الهيدرولوجية لأقامة المشاريع على نهر الفرات منذ العام 1936هذه المسوحات تمخضّ عنها فيما بعد المشروع الذي اسمته ( مشروع جنوب شرقي الأناضول ـ غاب ) والذي ألحق اكبر الأضرار بالعراق، ولم ولن يحلّ مشاكل تركيا. ان تركيا لم تلتزم بأية من مبادئ او قواعد علاقات حسن الجوار في تنفيذها لمشروع ( الغاب ) فلماذا نعفيها من التزاماتها ونضع اللائمة على بلدنا فقط؟
رابعا : ولعل جميعنا يذكر ما حدث عام 1974 ـ في عزّ قوة العراق ـ عندما اصرّت تركيا وسورّية على ايذاء العراق باملاء سدّي كيبان في تركيا والطبقة في سوريا في آن واحد وهما على نهر الفرات، وهو عمل عدائي واضح جدا اذ كان بأمكان لأحدهما ان ينتظر شهرا واحدا لكي لا يقع ذلك الضرر ـ الكارثة. وكم حاول العراق وقتها، وكم بذل من جهود سياسية لإقناع الطرفين بتعديل خطتهما ألا انهما لم يستجيبا، كم بذل فنيّو العراق من الجهود لإقناع الطرفين بأن ذلك غير صحيح حتى من النواحي الفنيّة البحتة....إلا ان تركيا وسوريّة أصرّا على ذلك الموقف اللاإنساني فحدث ما حدث للعراق وقتها من كارثة إنسانية كبيرة جرّاء الإنقطاع شبه التام لمياه الفرات...الم يكن ذلك بعد سنة تقريبا من قيام الجيش العراقي الباسل بإنقاذ دمشق من السقوط في براثن الاحتلال الاسرائيلي؟!! فما يؤسف له أن موقف العراق هذا، وموقف جيشه الباسل، قد قوبل بالتنكر التام من قبل حافظ الاسد فواصل حقده على العراق وقيادته بقطع مياه الفرات.
خامسا : فيما يتعلق بالثمانينات والتسعينات من القرن الماضي- تحديدا- فقد تصاعد إهتمام الدولة العراقية بموضوع المياه الذي بات أهم بند في العلاقات العراقية- التركية وحاول العراق انتهاج سياسة جديدة مع تركيا من خلال - تشبيك المصالح- فدخل معها في اتفاقيات اقتصادية كبيرة جدا، وتم انشاء انبوب النفط العراقي التركي الاستراتيجي لنقل النفط الخام من كركوك الى ميناء يومورتالوك ودخل معها في اتفاقيات تخص المياه من أجل عدم الاضرار بحصة العراق من تلك المياه، وجرى تشكيل لجنة مشتركة لمتبعة الموضوع. لقد حاول العراق بكل الوسائل ثني تركيا على تعديل خططها المائية بما يخفّفّ من الاضرار الا ان ذلك قوبل بتجاهل وتمويه وتمييع وعندما لم ينفع ذلك نقل العراق الموضوع الى الجامعة العربية عام 1993 وانضمت الى هذا الجهد السياسي فيما بعد سورية، وظل موضوع المياه بنداً منفرداً على جدول أعمال المجلس لحد الآن.
وللحقيقة والتاريخ نسجل، ان الجامعة العربية بذلت جهوداً سياسية كبيرة في هذا الموضوع بناءً على مقترحات ودراسات قدمها الجانب العراقي من خلال وزارة الخارجية العراقية، وارسلتها على شكل مذكرات الى الجامعة العربية للمتابعة.. ومن جملة ما قامت به الجامعة العربية إستجابة لمذكرات وزارة الخارجية العراقية ما ياتي:
1: اصدار قرارات تؤكد حقوق العراق وسورّية في مياه النهرين وتطالب تركيا بالإلتزام بقواعد القانون الدولي والإتفاقيات الثنائية السارية المفعول.
2: رسائل الى الحكومة التركية تطلب فيها الإستجابة الى المطالب السورية والعراقية وتربط ذلك بتطور العلاقات العربية ـ التركية.
3 : رسائل الى وزراء خارجية الدول التي تمول المشاريع التركية ( كانت مشاريع الرسائل تعدّ من قبل وزارة الخارجية العراقية ) ـ
4: وضع اسماء الجهات والشركات الممولة للمشاريع التركية على المقاطعة العربية.
5: رسائل للبنك الدولي ـ الذي انتهك قواعده ومول المشاريع التركية ـ تطالبه بالتوقف عن الاستمرار في تمويل المشروع.
سادسا: بموازاة ما تقدم قام العراق بجهود مع الأمم المتحدة والبنك الدولي والدول والجهات الممولة للمشاريع التركية، والحقيقة ان تلك الجهود أثمرت في اعاقة تمويل المشاريع التركية وبالتالي فقد تعثّرت كثيرا في التسعينات خلال فرض الحصار الاقتصادي الجائر إلاّ ان تركيا واصلت جهدها في السنوات اللاحقة.
سابعا: وعلى صعيد تحرك العراق على المنظمات المهتمة بالبيئة، بذلت الدبلوماسية العراقية جهوداً كبيرة لشرح حقائق وأهداف المشروع التركي والاضرار الكارثية التي ستلحق بالعراق وشعبه بعد تنفيذه . ففي العام 2000 أتصل رئيس شعبة المصالح العراقية في لندن، على إثر نشر احدى الصحف البريطانية، خبرا عن نشاط مجموعة عمل ناشطة ( اصدقاء الارض ) تعمل على وقف تمويل مشروع ( سد اليسو ) في شرق الاناضول، اتصل بالمجموعة والتقى بهم عدة مرات شارحا لهم خطورة الاستمرار في تنفيذ المشروع المذكور لان هذا السد سيقوم باغراق العديد من القرى الكردية ويدمر تراثهم ومزارعهم ويؤثر تأثيرا بالغا على العراق والانسان العراقي في حياته اليومية. ووجه لهم دعوة لزيارة العراق وفعلا زارت المجموعة العراق واطلعت على المواقع واستمعت للشروحات الفنية التي قدمها المختصون في وزارة الزراعة والري والقانونيين في وزارة الخارجية وعلى أثر هذه الزيارة أصدرت المجموعة بحثاً رصينا توثق أضرار السد على مستقبل الانسان العراقي، وقد خلق هذا البحث ونشاط المجموعة ضغطا إضافيا على الشركات ( الكونسرتيوم ) الممول لهذا المشروع وأجبرت احدى الشركات الاوروبية على الانسحاب من المشروع وقامت هذه المجموعة ( أصدقاء الارض ) بنشاط ممتاز ساهم مع الانشطة الاخرى في النهاية في عرقلة بناء ( سد اليسو ) وانسحاب عدة شركات من بينها شركات سويسرية وقد ساهم العراق من خلال وزارة الخارجية ووزراة الزراعة والري في هذه النشاطات بما ساهم في انجاح حملة المنظمة المذكورة.
ثامناً: لا تخلو مقالة السيد بابان من إشارات مهمة إلى خطورة واقع المياه والاضرار المستقبلية لها ولكن أين هي الجهود التي بذلتها حكومات الاحتلال للتصدي لهذه الكارثة القادمة.. لقد أهدرت تلك الحكومات والسيد بابان كان ولايزال جزءاً منها أكثر من 600 مليار دولار من أموال العراق منذ العام 2004 فهل استطاعت ان تعمل واحد بالمئة مما عملته الحكومة الوطنية والحكومات التي قبلها رغم شحّة مواردها.؟!!!
ختاماً، تود الرابطة ان تؤكد على ان السبب الرئيس هو ليس قصور الحكومات العراقية السابقة لكن السبب الحقيقي يكمن في إصرار تركيا على سياستها وعلى انتهاكاتها لكل القواعد والأعراف الدولية وعلاقات حسن الجواروالتاريخ المشترك. وبهذا الصدد تود الرابطة ان تذكر الحكومة التركية ان مبادئ حسن الجوار ليست فقط في تنمية وتطوير العلاقات السياسية والاقتصادية والامنية الثنائية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وانما تنص ايضا على عدم الحاق الضرر بالاخر لاسيما ان كانت علاقات الجوار قائمة على الروابط التاريخية والدينية المشتركة. كذلك تود الرابطة ان تسأل السيد بابان لماذا لم يتطرق الى حجب ايران مياه نهري الكارون والوند وقيامها بضخ مياه مبازلها فيهما. اليس هذا كيل بمكيالين؟!! أم ان على رأس ايران ريشة!!!!
رابطة الدبلوماسيين العراقيين
بغداد في :
الثالث من شهر ذو الحجة ١٤٣٣ من الهجرة
الموافق للتاسع عشر من شهر تشرين الاول 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق