د . خالد المعيني
- عقيدة الصدمة والفوضى الخلاقة
- تفكيك المجتمعات وإعادة تركيبها
- نموذج العراق في عقيدة الصدمة
- واجب الحركة الوطنية العراقية
صممت صفحات الحرب على العراق وفق عقيدة عسكرية تقوم على أساس شل إدراك الخصم وتحطيم إرادته ، لتحول تماما دون قيامه بأي فعل وجعله عاجزا عن إبداء رد فعل ، هذه العقيدة أطلق عليها "عقيدة الصدمة" وهي نتاج لدراسات طبية ونفسية أجريت في مختبرات جامعية لصالح الاستخبارات العسكرية الأمريكية ثم وظفت سياسيا وعسكريا واقتصاديا في حروب وغزوات الولايات المتحدة الأمريكية. ويعتقد منظروا هذه العقيدة إن هذا النوع من الصدمات هو بمثابة شكل من أشكال استثمار الصدمات الجماعية الكبرى حيث يتم في ظلها تغريب وانتزاع إرادة الشعوب المحتلة – الفريسة – تحت ضغط ورهبة الإبادة والقتل والاعتقال وانتهاك الحرمات, والتعامل مع الاحتلال كنوع من الكارثة الطبيعية التي يفقد فيها السكان القدرة على التصرف بعقل جمعي أو وطني, فيعيشون تحت حالة من فقدان الذاكرة التي قد تصل إلى حد الغيبوبة وتشكيك وتشوهات حادة في حقيقة الهوية الوطنية *.
الصدمة النفسية أو الشلل الإرادي بعد الاحتلال يتم من خلال مهاجمة الدماغ دفعة واحدة للإخلال والتحكم بوظيفته الطبيعية والذي يتحقق نتيجة كارثة سواء أكانت احتلالا أو إعصارا أو هجوما إرهابيا أو انهيارا للسوق يضع السكان في حالة من الذهول و الصدمة الجماعية تنسف طبيعة الحياة ومنظومة القيم المألوفة لديهم ، يعيشون بعدها حالة من عدم الاستقرار والانفصال عن الذات وإلغاء وتفريغ خزين الذاكرة الوطنية وتشويهها عبر سرقة الآثار وحرق المكتبات ودور الوثائق الوطنية وتدمير الدوائر ذات الصلة بالوحدة الوطنية لقطع أي صلة أو وشائج بين السكان, وهذا الوضع يمثل بالنسبة لمخططي الاحتلال بالصدمة خط الشروع المثالي والمناسب لتحقيق مآربهم في المباشرة بتمرير ما لا يمكن تمريره في الظروف العادية من برامج وأنظمة سياسية واقتصادية دون أي اكتراث يذكر من طرف السكان لأنهم يعيشون تحت ذهول الصدمة ، ويتخذ احتلال الشعوب بالصدمة ثلاثة مراحل يكمل بعضها البعض :
– الصدمة الأولى بالاحتلال العسكري واستخدام القوة المفرطة لشل إرادة الخصم تماما وتفكيك صمامات الضبط الاجتماعي والوحدة الوطنية .
– الصدمة الثانية فرض قسري لنظام وطبقة سياسية ومنظومة قيم اقتصادية ترتبط تماما بأهداف الاحتلال.
– الصدمة الثالثة مصممة ضد كل من يعارض أو يقف بوجه الصدمتين الأولى والثانية ( المقاومين ) بالاعتقال والتعذيب والاغتيال.
هذه العقيدة هي الوجه الثاني والمكمل ًلعقيدة أخرى لا تقل خبثا وخطورة وهي رأس الرمح لتشكيل ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد الذي يتناغم في نهاية الأمر مع خطوط التقسيم الجديدة للصراعات في القرن الحادي والعشرين القائمة على أساس عرقي وطائفي وديني ، تلك هي نظرية " الفوضى البناءة " creative chaos " ويعد برنارد لويس** من أهم منظريها, يقوم جوهر هذه النظرية على صدم ًالمرضى وإعادتهم إلى نوع من الفوضى كمقدمة للتفكيك وإعادة التركيب ، بمعنى آخر إن التفكيك من خلال الفوضى سيتيح ظروف أكثر ملائمة لإعادة بنائهم بصورة نموذجية .
تم مزاوجة العقيدتين فالاستخدام المفرط للقوة العسكرية مباشرة كقوة صلبة لتغيير الأنظمة السياسية كما حصل في العراق وأفغانستان, أو من خلال استخدام وسائل القوة الناعمة كالخنق الاقتصادي والحصار السياسي والدبلوماسي والتهديد بالقوة العسكرية بغرض إضعاف أواصر التماسك الداخلي وإثارة وتحفيز عناصر التمترس الطائفي والتمرد العنصري لاستخدامها لاحقا في تفجير هذه الأنظمة السياسية من الداخل ، يعتقد منظري هاتين العقيدتين وخاصة نظرية الفوضى الخلاقة بأن مجتمعات الشرق الأوسط ذات أنظمة سياسية حديثة نسبيا وقد أخفقت معظمها في بناء الدولة ذات الهوية الوطنية ***, ولا تزال الأولوية لدى الكثير من أبناءها يميل باتجاه ثقافاتهم الفرعية العشائرية والدينية والإثنية وليس لدولتهم فهناك فشل متراكم تام على مستوى صهر ثقافة وطنية لجميع الأفراد داخل بوتقة الدولة. وبالتالي فإن أي عملية إزالة للبناء السياسي الفوقي يرافقه حل صمامات الضبط الاجتماعي كالجيش والشرطة والأمن أو حتى القيام فقط بإضعاف دور الدولة أو النظام السياسي والضغط عليه فإن ذلك كفيل بانكفاء هذه المجتمعات إلى عناصرها الأولية – ما قبل الدولة - ولن تتمكن من التصرف بشكل جمعي وسرعان ما تتحول إلى كيانات صغيرة وضعيفة متناحرة فيما بينها على ألسلطة والثروة تسهل السيطرة عليها والتحكم بها .
لقد شكل غزو العراق واحتلاله حقل التجربة النموذجي والمثالي لتطبيق هاتين النظريتين وتركتا جراحا عميقة وغائرة في جسد المجتمع العراقي وآثارا مدمرة على حاضره ومستقبله، ومن المتوقع استخدام هاتين النظريتين وتعميمها ضد دول أخرى في المدى القريب كأحد آليات الصراع بين الشعوب في القرن الحالي من خلال ما تتيحه ثورة الاتصالات والمعلومات من فرص ذهبية للقوى المتفوقة تكنولوجيا لعبور الحدود والتأثير المباشر في تغذية التوترات وإثارة النعرات دون الحاجة الفعلية للتواجد على أراضي الخصم وبث الجواسيس كما كانت عليه الحال في العقود السابقة .
تفسر عقيدة الصدمة في العراق حجم الدم الذي أريق والأرواح التي أزهقت ، حيث تجاوز عدد القتلى المليون, وكذلك عمق وكثافة ومستوى التدمير والنهب الذي فاق كل التصورات ، كما إن استمرار موجات العنف الهمجية التي تضرب السكان المدنيين منذ ثمان سنوات سواء كانت على يد قوات ومرتزقة الاحتلال مباشرة أو بإشرافهم على يد ميليشيات محلية يتم تجنيدها وتدريبها ليس سوى تطبيق منهجي ومدروس لنظرية الصدمة التي تهدف إلى عدم إعطاء أي فرصة للمواطن العراقي لالتقاط أنفاسه أو رفع رأسه خارج إطار دوامة الكارثة المستمرة ، وتحول دون استعادته للمبادأة فالإمعان بالقتل والإبادة والاستباحة والتجويع وإشاعة المخدرات تتيح للاحتلال القدرة على شل إرادته عن التفكير السليم المتوازن ومحاصرته في حالة من الذهول النفسي يشغله ويبعده عن أي احتمال للتفكير بصورة جمعية حول ما يتم تمريره على المستوى السياسي والاقتصادي وحتى العسكري .
( أفضل وقت للاستثمار في العراق هو قبل أن يجف الدم ) هكذا عبر أحد مدراء مئات الشركات الأمريكية الخاصة المستثمرة التي دخلت العراق عقب احتلاله ، ففي ظل حجم النار والقصف الهائل وهول التدمير والاستخدام المفرط للقوة العسكرية خلال الغزو بما فيها الأسلحة المحرمة دوليا والتي لا تتناسب ومستوى قوة العراق التقليدية والإمعان بعد ذلك بالقتل والانتهاكات إلى حد الإبادة واستباحة المقدسات والأساليب الفظيعة للتعذيب الجسدي والأخلاقي للمقاومين والوطنيين العراقيين كما جرت في سجن أبو غريب واستمرت بعد ذلك بنفس المنهجية في سجون حكومات الاحتلال المتعاقبة لتصفير وإعدام ذاكرة الأسرى والسجناء ، في الحقيقة كانت هذه الأساليب تمارس في نفس الوقت ضد مجتمع بكامله خارج السجون بشكل مدروس وبصورة منهجية تنسجم مع قوانين وقواعد عقيدتي استثمار ذهول وشلل المجتمع لما بعد مرحلة (الصدمة) وإعادة البناء وفق مقاسات الاحتلال لما بعد مرحلة (الفوضى) .
وقد تكون إدارة الاحتلال الأمريكي تمكنت من فرض نظام سياسي قائم على أساس المحاصصة لأول مرة في تاريخ العراق السياسي, ومررت أخطر قوانين الاقتصاد من قبل الحاكم المدني للاحتلال, وسرقت ذاكرة المجتمع العراقي وتشويه هويته وقد تكون نجحت في تصفية الطبقة المتوسطة في المجتمع من خلال تصفية وتهجير وتشريد معظم العقول بقصد تفريغ المجتمع من بوصلته الأساسية ، وربما أيضا دمرت البنية التحتية والصناعية بالكامل والأخطر من ذلك جرت ولا تزال تجري أكبر وتقوم بعمليات نهب منظم لثرواته وفي مقدمته النفط .
لكن في المقابل فإن حسابات الحقل ليس دائما تنطبق على حسابات البيدر فقوات الاحتلال بدورها تلقت صدمة عسكرية لم تكن في حسبانها عندما تباغتت بمقاومة عنيفة تكبدت جرائها خسائر مادية وبشرية فادحة فقدت على أثرها معنويات وإرادة جنودها على الاستمرار في القتال مما أضطرها أخيرا على جدولة انسحابها, وعلى الرغم من إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تنتصر في العراق ومنيت في الشق العسكري بهزيمة قاسية إلا إنها لم تهزم بعد كليا ولا تزال كقوة عظمى تمتلك القدرة على المناورة سياسيا وإقليميا في العراق للمحافظة على الحد الأدنى من مصالحها وأهدافها السياسية وكذلك ما تبقى من ماء وجهها.
إن تغير طبيعة الصراع في العراق وفق قانون المراحل من صراع عسكري الى صراع مركب ، يضع أمام الحركة الوطنية بكافة ركائزها تحديات من نوع جديد في مقدمتها العمل بكافة الوسائل على حرمان العدو من أهدافه السياسية والاقتصادية في العراق ويتم ذلك من خلال تنشيط أنماط متنوعة من المقاومة في وقت واحد كالمقاومة المدنية والمقاومة الاعلامية والمقاومة القانونية إضافة لركيزتي المقاومة الاساسية العسكرية والسياسية ، تفعيل وتصعيد العمل بهذه الانماط بصورة متناغمة ومدروسة كفيل بإستفاقة الشعب العراقي وإستعادته لوعيه الوطني كرد على عقيدة الصدمة ، وهو اليوم أكثر إستعدادا لذلك بعد فشل حكومات الاحتلال المتعاقبة وبعد فضح ممارسات الاحتلال البشعة وإستمرارها بحق هذا الشعب ، ولن تتمكن الحركة الوطنية العراقية من التأثير وإستعادة المباداة ما لم تعتمد على خلال خطط جديدة وخلاقة تلتصق وتنبثق من حرمان ومعاناة الشعب تقودها نخب وطنية وقادة رأي عام ، بعقول مركبة لاتحكمها عقد الماضي وغير مثقلة بأوزار الطائفية والعنصرية المقيتة ، تتميز هذه النخب بقدرتها على رفع رأسها فوق الواقع الذي يعيشه الشعب ولكنها أبدا لاتنفصل عنه ، واجبها الاساسي إشتقاق معادلات وقوانين جديدة لادارة الصراع تعتمد على زيادة مساحة الوعي الوطني العراقي لمواجهة كافة صفحات الاحتلال التي مررها في حقبة الصدمة سواء السياسية كالدستور المفخخ الذي يشكل وصفة جاهزة لتفتيت وتقسيم العراق وترسيخ مبدأ المحاصصة الطائفية والعنصرية كفلسفة للحكم في العراق أو تمرير الاتفاقية الأمنية المذلة في غفلة من الشعب العراقي وغير ذلك من صفحات الاحتلال الاقتصادية المتعلقة بقرارات الحاكم المدني بول بريمر سارية المفعول التي نظمت ولاتزال سرقة ونهب ثروات العراق بصورة منهجية ومدروسة.
إن شعبنا بذاكرته الوطنية وخزينه الحضاري وقوة جذب المستقبل إذا ما تهيأت له رؤية سياسية واقعية وعقلانية وشريحة وطنية تحمل مهام هذه الرؤيا ومؤمنة بقضية عادلة في العراق ، فإن هذا الشعب قادر وبوقت قياسي على معرفة طريقه وقلب كافة الموازين .
* ميلتون فريدمان : بروفسور مادة الاقتصاد في جامعة شيكاغو 1912 – 2006 . يعتبر مهندس عقيدة الصدمة ومؤسس مدرسة شيكاغو التي تقوم على هذه الفكرة التي مفادها ضرورة التصرف بسرعة خاطفة عند وقوع ازمة ما في سبيل فرض تغيير سريع قبل أن يستيقظ الجميع ، وقد طبقها في سبعينيات القرن الماضي بشكل محدود في تشيلي وقد تتلمذ على يديه معظم صقور المحافظين الجدد الذين وجدوا في إحتلال العراق فرصة ذهبية لتطبيق جميع أفكاره ، نعومي كلاين ، كتاب عقيدة الصدمة – صعود رأسمالية الكوارث .
** برنارد لويس: مفكر يهودي وأستاذ في جامعة برن ستون الأمريكية ويعد احد ابرز نظرية الفوضى الخلاقة ومن اشد مناصري إسرائيل وقد أعلن عقب حرب الخليج 1991 عن موت العالم العربي ككيان سياسي واقترح استخدام مصطلح ( الشرق الأوسط) بدلا من العالم العربي.
*** أول تبني رسمي لفكرة ومصطلح الفوضى الخلاقة جاء على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس في حديث لها مع صحيفة الواشنطن بوست في 9/4/2005 حيث أبدت حينها حماسة لاستبدال الأنظمة السياسية لضمان التحول الديمقراطي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق