الأحد، يونيو 08، 2008


منتوف ريشه Redacted
محمود سعيد
yesterday's story
تعني كلمة Redacted مرّ عبر الرقابة، فقطعت ما لم ترد أن يراه المشاهدون. ليس هذا بغريب علينا نحن العرب، فقد اعتدنا في بعض البلدان العربية علي تدخل الرقابة. إذ ما تزال تعشش عندنا طابوات مثلث المنع الأزلي، بأقانيمه الثلاثة: الدين، السياسة، الجنس. وإن أردنا التفصيل فما يخص الأقنومين الأولين يمنع النتاج الفني سواء أكان شريطاً سينمائياً، أو كتاباً، أو تمثيلية، أو لوحة أو كاريكتيراً الخ منعاً ملكياً باتاً لا تراجع عنه قط. لكن الرقابة عندنا تتساهل مع البند الثالث، الجنس، فتمرر بعض اللقطات البسيطة، لكنها تقطع القبل، واللمسات الحميمة، والكلمات البذيئة. في أمريكا لا يوجد طابو، ولا رقابة قط، لكن اشتداد نقد بوش وآلته الحربية، التعسفية، وجرائم جيشه في العراق وأفغانستان، وأبو غريب، وغوانتنامو، وفضائح الـ cia التي بدأت منذ عقود ولما تنتهِ بعد، حملت المدافعين عن الجانب القبيح في الوجه الأمريكي، علي فرض شيء من الرقابة، وبخاصة إن كان من إنتاج مخرج شجاع كدي بالما، أعلن أنه سينتج فيلماً عن العراق، قبل أن يبدأ عمله. ولست أدري هل طالت يد الرقابة السوداء غير هذا الشريط السينمائي (الفيلم): Redacted، أم لا. لكني متأكد أنه بالرغم من المقدمة التي يقول فيها أن الفيلم كله نوع من الخيال لا غير تعرض لمقص الرقيب، وكان ذلك واضحاً من تخلخل الانسياق. مرّ الفيلم إذاً في نفق الرقابة الكريه المظلم، ليتلقي المقسوم ثم خرج منهكاً، فصح ما يجب أن نطلق عليه بالدارجة العراقية: منتوفٌ ريشُه. ومع ذلك بقي أحد الأفلام العظمي التي كحلت عيوننا طيلة قرن من الزمان، لم أر فيلماً في مستواه إلا في السبعينات: (الراقص مع الذئاب)، لقد ندمت لأني شاهدت الفيلم متأخراً. كان علي أن أراه قبل ذلك، ولا مجال لدي لتبرير خطأي مطلقاً. لقد حدث معي شيء لأول مرة في حياتي، وأنا أشوف الفيلم، إذ كنت أتساءل، مع نفسي، ومجريات الحودث المثيرة تتدفق أمام عينيّ: هل ما يصوره الفيلم من لقطات وثائقية أم حقيقة؟ وظللت تائهاً تمزقني الأسئلة حتي انتهي الفيلم، ولو لم أرَ أسماء الممثلين والممثلات لاستقر في ذهني أنه فيلم وثائقي، ولا سيما أن للمخرج أفلاماً وثائقية كثيرة، وذلك منتهي العبقرية في نظري. الفيلم مستوحيً من مأساة الطفلة العراقية (عبير الجنابي) التي اغتصبت وقتلت مع أفراد عائلتها، لكن المخرج لدواعٍ فنية نقل الحادثة إلي سامراء، ليرويها من خلال ثلة من جنود الاحتلال الأمريكي تسيطر علي تقاطع مروري في المدينة المنكوبة. بداية موفقةتجري قصة الفيلم وفق مقولة (الكتاب يفصح عن نفسه من عنوانه)، ففي هذا الفيلم ما يشدك منذ بداياته، بطريقة ذكية غير مباشرة هادفة: هذه المنطقة بعيدة عن وطن الجنود الأمريكان، والأنس فيها مفقود، ولا بد من وجود تسلية، يقضون بوساطتها علي رتابة الحياة وثقل الواجب، لا شيء غير أخذ الصور في تلفوناتهم الحديثة المحمولة. جندي في بداية عشريناته يسجل في كامرته عن نفسه، وسط مزاح وتدخلات رفاقه: أنا الجندي فلان ...، خدمت في الجيش لأجمع ما يكفيني لتكملة دراستي الجامعية، ووجدت نفسي هنا في سامراء، لا يوجد ما نقتل في الملل سوي مراقبة الناس والتصوير الخ. ثم يبدأ ذلك الجندي يراقب الطرق العامة في سامراء علي مرتفع من الأرض، وفجأة ينظر تحت قدميه فيفاجأ بعقرب أصفر ضخم يغادر جحره ومجموعة من النمل تلاحقه، وتهاجمه في كل مكان من جسده، فيخرج الجندي كامرته ويبدأ بتصوير العقرب وهجوم أعدائه الصغار عليه. يا لها من معركة حامية (كمعركة أمريكا في العراق)، فمن سينتصر؟ في ثوانٍ ينتصر النمل علي العقرب، ويقطع أعضاءه وينهيه. يبتسم الجندي، تري أ خطر بباله أن دولته ستنتهي في العراق كما ينتهي العقرب؟تلك كانت البداية الرائعة، ثم يظهر أطفال يلعبون كرة القدم في ساحة متربة، والجنود الأمريكان يشرفون عليهم من تلٍ عالٍ مدججين بسلاحهم الحديث، يبرز المخرج نقطة أخري رائعة وهي سخرية الأطفال العميقة من الجنود، يرفع أحدهم قنينة مرطبات: هل تريد صودا أيها الجندي؟أي رمز فائق! المخرج يتصرف بعمق إنساني رائع فكه لا يجاري.ثم ينزل الفيلم إلي أعماق الصراع، ليظهر إذلال الشعب العراقي المتعمد، من قبل جنود الاحتلال، فعلي السابلة والسيارات أن تمر من خلال طريق ضيق، مليء بالتعرجات، وسط الصراخ والإهانات، والسباب، والدفع والتفتيش، وفتح الصندوق الخلفي، وغطاء السيارة الأمامي، واندفاع الكلاب الشرسة لينتهي التفتيش، وأرواح العزل المساكين تكاد تغادر أجسادهم، وأيديهم علي قلوبهم يتحسسون أعضاءهم، ويتساءلون هل بقوا أحياء أم لا. فأقل حركة قد تجعلهم يذهبون ضحية نزق جندي شاب ودع المراهقة منذ قليل، وقتله الملل بعيداً عن محيطه. لكن الأطفال ببراءتهم وشجاعتهم الطبيعية يتجاوزون حاجز الخوف، فيتجرؤون لا علي ممازحة الجنود الأمريكان لا بل علي مضايقتهم، فالمخرج العبقري يوصل المشاهد إلي استنتاج ان هذا الشعب المعطاء الطيب يستحق الخير، لكن الجنود الأمريكان لا يلبثون أن يرتكبوا جريمتهم الأولي في الفيلم، فهم يقتلون امرأة حاملاً (سليمة) في طريقها للمستشفي لتضع حملها، وبدل أن تفرح سليمة وتستمتع هي وزوجها وأهلها بالطفل، قتلا معاً.2ادّعي الأمريكان، أن السيارة رفضت التوقف، بينما يقول أخو (سليمة) المغدورة أنهم طلبوا منا في بداية المفرزة أن نمر، ثم أطلقوا علينا في آخر المفرزة النار. ويأتي تصرف الجنرال الذي جاء للتحقيق في غاية التقزز، فهو يقول للمفرزة إنهم أدّوا واجبهم، ولا يترتب علي ذلك أي مسؤولية قط. وأن يناموا مرتاحي الضمير. تتتالي أحداث الفيلم حتي يبلغ الذروة في حادثة تشبه حادثة عبير الجنابي، فهم يشخصون طفلة جميلة، ويخططون لاغتصابها، وقتلها هي وباقي عائلتها، وينجزون مهمتهم المخزية.وإن كان الفيلم قد نال ثلاث جوائز في مهرجان البندقية، فقد لقي عنتاً هنا، ولم يسمح به إلا في محلات ترويج أقراص السينما.في آخر الفيلم يعرض المخرج صوراً تسربت من جرائم الاحتلال التي لا تعد ولا تحصي، انتقي منها القليل، وهنا انتقي صورة الطفلة أعلاه في تلعفر، نشرت تلك الصورة جريدة شيكاغو تربيون يوم الأحد 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005. وفي الشرح ان الجنود الأمريكان فتحوا النار علي من في السيارة، لأنها لم تتوقف، فقتلوا والد الطفلة وأمها. وبقيت هي وحيدة فريدة ليس لها من يساعدها في هذا الزمن الأغبر، وصرختها تشق عنان السماء.الصورة أرقتني، طيلة ثلاثة أيام، فكتبت عنها مقالة طويلة، لما تنشر بعد. ہہہأصبحت الحرب منذ قيامها شبحاً أسود يجلل سماء المدن الأمريكية كلها، من دون استثناء، وينكأ جروح ضمائر أبنائها، ومن يخالط الأمريكان يذهل لتعاطف أفراد الشعب مع الشعب العراقي وضحاياه. لم أر إلي حد الآن أي شخص يؤيد الحرب في أمريكا قط، إلي حد أنني أتساءل مع نفسي: أين هم الناس الذي دعموا مجيء بوش إلي السلطة؟ لماذا لم أر أحداً منهم. ولماذا يندفع أبناؤهم وبناتهم في الجامعات الي تعلم العربية؟ أهناك ردة فعل بدأت تعمل عملها في الشعب الأمريكي ببطء؟ وماذا يحدث بالضبط؟في خلال هذا الشهر دعيت مرتين لقراءة قصة مترجمة إلي الانكليزية، وكانت آخر مرة بدعوة من جامعة كولمبيا في مكتبة عامة، والغريب ليس حضور الناس لسماع قصة عراقية، يتفاعلون معها، بل الغريب كل الغرابة أن يتكرر هذا السؤال: لماذا يوجد عراقيون يؤيدون الاحتلال ويتعاونون معه، بينما يكره المواطن الأمريكي العملية كلها؟ ألا تستطيعون ركل هذا النفر في قفاه كي لا يتخذ بوش وعصبته نجاحهم في استمالة هؤلاء الخونة من العراقيين حجة لبقاء الاحتلال؟ہ
كاتب من العراق يقيم في أمريكا

ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار