د. ثامر براك الأنصاري
تحميل المسؤولية الكاملة أو الكبرى عن تراجع الأمة للحاكم الخانع الخاضع للأجنبي، شِنْشِنَةٌ (أي عادة وطبيعة) عرفناها ممن لا فقه له من المنتسبين إلى الجماعات الإسلامية، التي لها حديث أو اهتمامات بالسياسة، أو تزاول النشاطات السياسية، وتلوكها ألسنة سياسيين وإعلاميين وشباب في (الربيع العربي) ، أو الحركات الاحتجاجية الواسعة التي انطلقت في عدد من الدولة العربية، وتميزت بظهور هتاف عربيّ أصبح شهيرًا في كل الدول العربية وهو: (الشعب يريد إسقاط النظام) .
ونحن لا نبرئ النظام الرسمي من المسؤولية إلا أن ما قرره فقهاء الشريعة، وأرباب التربية والسلوك، وعلماء النفس والاجتماع، والمستخلص من تجارب الشعوب، هو: أن الإصلاح يجب أن يتوجه بالدرجة الأولى إلى الفرد والأسرة والمجتمع، فإذا صلحت فحينئذ فقط سيقوم النظام الصالح، الذي يبعث عهد الفاروق وحفيده ابن عبد العزيز، ويجدد مجد الوليد والرشيد.
وبرهان ذلك: أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في أول دعوته، عرضت عليه قريش الملك فأبى، واتجه إلى إعادة بناء الفرد والأسرة والمجتمع، فلو كان الملك أو الإمارة أو السلطة أو الرئاسة أو القيادة، الأداة الرئيسة أو الوحيدة للإصلاح لكان اعتمدها!!.
وعندما استقر الإسلام، وأكمل الله دينه، وأتم نعمته، ترك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمته بلا خليفة يستخلفه عليها، ثقة منه بها، وبحسن اختيارها، وبأنها في مستوى المسؤولية التاريخية، جاء عن صَعْصَعَة بن صُوحان (ت 56 هـ) – وهو أحد التابعين- أنه قال: دخلنا على علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- حين ضربه ابن ملجم فقلنا: يا أمير المؤمنين! استخلف علينا، قال: أترككم كما ترككم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، قلنا له: يا رسول الله! استخلف علينا، قال: "إن يعلم الله فيكم خيرا يول عليكم خياركم" قال علي: فعلم الله فينا خيرا فولى علينا أبا بكر–رضي الله عنه- .
فكأننا أمام معادلةٍ عجيبةٍ، فيها أفرزت خيرية الأمة خير الحكومات والحكام.
وعندما أبدى الخليفة عبد الملك بن مروان تبرمه من رعيته –في يوم ما- قال لهم: "ما أنصفتمونا -يا معشر الرعية- تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر، ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر!" ، فلو كانت الرعية (بكرية- عمرية) لكان الرعاة (بكريون- عمريون) نسبة إلى الخليفتين الأول والثاني، أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب –رضي الله عنهما- وفترة خلافتهما كانت مضرب المثل في أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل.
وهذه أيضا نظرة كبير التابعين، الحسن البصري –رحمه الله- لكنها مستنبطة من الحديث النبوي الشريف، ومعضدة به، فقد جاء عنه أنه سمع رجلًا يدعو على الحجاج –الوالي الأموي المعروف- فقال له: لا تفعل، إنكم من أنفسكم أوتيتم، إنما نخاف إن عزل الحجاج أو مات أن يتولى عليكم القردة والخنازير! فقد روي: "إن أعمالكم عمالكم، وكما تكونوا يولَّ عليكم" .
والعمال: جمع عامل، وهو المسؤول والموظف لدى الدولة حينئذ.
أما (كما تكونوا يولَّ عليكم) فإن معناه واضح جلي في أن المجتمع الصالح يتولى أموره الأصلح، وإذا انتشر فيه الفساد آل أمره إلى الفاسدين.
وهذا المعنى من المعاني القرآنية، فإن القرآن يقول: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [ الأنعام : 129 ] ، وعن التشابه والانسجام والتناغم بين فرعون وشعبه يقول:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } [الزخرف: 54] .
وإذا كان حديث "النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِم" لم يُعرف له سند يصل نسبه ويرفعه، فمعناه صحيح، وعكسه صحيح أيضا وهو "الحكام على دين شعوبهم" ، وذلك ناموس كوني، يكافئ الله فيه الأمة بولاية الأبرار إذا سلكت الصراط المستقيم، ويعاقبها بولاية الفجار إن هي حادت عنه!! وهو الناموس الذي يجهله أو يغفل عنه كثر من القواعد والقيادات والمنظرين للجماعات والحركات والأحزاب والتنظيمات ذات المرجعية الإسلامية، على الرغم من مواظبة بعضهم على تلاوة الآيات، وقراءة الأحاديث، لكن التلاوة والقراءة لهما شيء، والفقه فيهما شيء آخر؛ ولهذا نراهم يركزون على الملف السياسي، أما الملفات الأخرى فلا تأتي إلا لماما، ومن باب إبراء الذمة، ومن قبل النخب فقط، والطريف الذي يحز في النفس -في الوقت ذاته- أن مِنْهم مَنْ حوَّلوا (الخلافة) إلى (حائط مبكى) إسلامي، و (حسين) جديد -سلام الله على أبي عبد الله الحسين- فهم يملأون الجو صياحا وعويلا وبكاء ونياحة عليها، وفي تاريخ التشيع ما عرفت فرقة الإمامية بهذا الاسم إلا لاختلافها مع غيرها في مسألة (الإمامة) ، أي (الخلافة) ، فما الفرق بين ملتف حول راية الإمامة، وبين متجمع خلف لافتة الخلافة؟! .
ومثلهم في عدم التعرف على هذا الناموس كثر من السياسيين والإعلاميين والشباب في (الربيع العربي) ، ولقد أصغيت إلى حامل لقب (داعية إسلامي) بلغت به النشوة أن يقول: "إن (الربيع العربي) أعظم حدث في تاريخ الإسلام" ، ثم تدارك نفسه ليضيف عبارة: (بعد البعثة النبوية) .
وإذا كنا قد تعرفنا إلى هذا الناموس، الذي جهله هذا (الداعية) وسواه فلنتجه إلى الإصلاح الشامل، الفردي والجماعي، الروحي، والثقافي، والفكري، والعلمي، والاجتماعي، والأسري، والصناعي، والتجاري، والزراعي.. إصلاحا للمرأة، والرجل، والمسن، والشاب، والطفل، فعلم التربية الإسلامية يعم كل هذه الأشياء وأكثر من ذلك، وبالطبع فإن الإصلاح السياسي أحد مفردات هذا الإصلاح الشامل، لكنه ليس الوحيد ولا الرئيس!!
فـ يا أيها المصلحون، أصلحوا الشعوب!! ثم أصلحوا الشعوب!! ثم أصلحوا الشعوب!! ثم أصلحوا الحكام، وسترون حينئذ رايات الخلافة خفاقة في سماء الإسلام!!
تلك نظريتهم، وهذا ما جاء به علم المنقول والمعقول، وأنت،،
خُذ ما تَراهُ وَدَع شَيئاً سَمِعتَ بِهِ ... في طَلعَةِ الشَمسِ ما يُغنيكَ عَن زُحَلِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق