(أولا)
الأستاذ الدكتور كاظم عبد الحسين عباس
أكاديمي عراقي مقاوم
الإقرار بصلات الجغرافية والتأريخ ما بين العرب وإيران أمر لا مناص منه، وهو يشبه الإقرار بذات الصلة مع تركيا وأمم افريقية تحادد العرب. وفي الوقت الذي تشير البوصلات العامة إلى ضرورة أن تكون العلاقة ايجابية ومستقرة لأن هناك مشترك ديني بيننا وبين إيران وتركيا والأمم والشعوب الأخرى غير إن البوصلات قد أجبرت على الانحراف كليا أو جزئيا بين العرب وإيران بدرجة كبيرة واقل منه بين العرب وتركيا واقل بكثير قد يصل إلى درجة عدم الحصول مع الأمم والشعوب الأخرى. ببساطة متناهية, إن درجة الانحراف عن العلاقة الإسلامية قد أخذ مدياته القصوى في حالة تحول الدولة الإيرانية أو الدولة التركية من مجرد دولة ذات أفق وإطار جغرافي محدد إلى نظام سياسي طائفي يبحث عن فرص السيادة خارج حدوده, ويبدأ عندها مسار التدخل السافر في مفردات حياة وشؤون داخلية لا يجوز وغير مقبول في شؤون الدول والشعوب الأخرى عموما والمجاورة بشكل خاص. إن الانتفاخ الطائفي الذي أصاب الجسد الإيراني بعد استلام خميني للسلطة في إيران هو احد أهم المطارق التي سقطت على جمجمة المنطقة برمتها وأولها العراق والعرب وأدى في ما أدى إليه إلى انتفاخ تدريجي مقابل في الروح العثمانية الكامنة في صدر تركيا وهذا هو جوهر الكارثة التي نفذت منها الامبريالية الأمريكية والصهيونية لتمعن بالجسد العربي، تمزيقا ابتدأ بتمزيق الجسد العراقي في حرب عدوانية مباشرة بدأت مع أول خطوة خطاها خميني إلى بيت الحكم في طهران وتواصلت منذ ذلك الحين عام 1979 والى يوم غزت أميركا العراق بعد أن استخدمت كل دول المنطقة بهذه الدرجة أو تلك كمواطئ قدم ومياه وأجواء وسياسات مساعدة للغزو.
أين التلاقي؟
سأتجنب المباشرة حتى في ما هو ثابت في قناعاتي كعراقي نشأ في وسط اشتغلت عليه إيران لمئات السنين لتجعل منه مواليا لها تحت ستار المذهب وهو الوسط المجاور جغرافيا لحدودها أو في العمق العراقي الذي اجتهدت في النفوذ إليه عبر ستار المذهب. سأتجنب المباشرة التي اعتاد عليها مَن يقرأ كتاباتي المتواضعة وهي اتهام إيران مباشرة وعبر الحوزة المذهبية في النجف والمراجع الإيرانيين بالجنسية أو الموالين لإيران بحكم القناعة المؤسسة على المذهب، وليس على الدين لأن المذهب عند الفرس قد تحول في إطار انحرافات خطيرة معروفة إلى قيمة أكثر قدسية من الدين نفسه فصار الإمام علي عليه السلام أهم من محمد صلى الله عليه وسلم، وصار الحسين عليه السلام أهم من الدين برمته رغم انه استشهد من اجل دين جده محمد صلى الله عليه وسلم ليحميه من شطط وانحراف رآه وايقنه. سأتجنب المباشرة وأنفذ مباشرة إلى نقطة التلاقي المقصود أو غير المقصود في استراتيجية إيران القائمة على التمدد الطائفي وإستراتيجية الكيان الصهيوني القائمة على نمط وقناعة دينية مشابهة للتواجد والبقاء السرطاني في أرض العرب.
الفرس الطائفيين يرون إن من حقهم حكم العراق أرضا وشعبا, حكما مباشرا أو بالنيابة, لأن في العراق مزارات شيعية أوصلهم انتفاخهم الطائفي إلى تبني شعار ومنهج أحقية حمايتها ومحبتها وتقديسها مع قناعات سحب هذه المشاعر من أصحاب المزارات نفسهم والإنكار على أهل البلد العراقيين المؤمنين الأخيار هذا الحق وسواه من المتعلقات اليومية بهذه المراقد. وحولت إيران قضية المزارات والمراقد وصلتها ودلالاتها المذهبية وحق التصرف بها إلى قضية تفوق في قدسيتها حرمة الأوطان وقدسية استقلالها وسيادتها على إقليمها. هذا طبعا يضاف إلى تحويل الحوزة والمراجع وولاية الفقيه وحكم العمامة الطائفية إلى سياسة مقدسة تعبر عن شرعة المذهب وعناوين لحياته من جهة وحصر رمزية المراقد بالشيعة عموما والصفويين خصوصا مع أن عامة المسلمين يحترمونها ويقيمون لها الاعتبار المادي والمعنوي مع إننا كمسلمين وكشيعة وأبناء منطقة جوار مع إيران لم نجد يوما أي توافق بين المذهب الجعفري وبين منهج إيران الصفوي هذا لأسباب كثيرة يقف في مقدمتها إن الفرس الذين استوطنوا العراق قد استوطنوه لأغراض العيش والتجارة والتجسس وليس لأغراض دينية حقيقية.
النتيجة والخلاصة إن إيران ترى إن من حقها حكم العراق وإخضاع شعبه والفاء هويته القومية العربية بإطارها العام ليس لأنه مسلم بل لأنه شيعي فإيران لا تريد خلافة إسلامية بل إنها تسعى لإقامة دولة شيعية طائفية سياسيا تحكمها العمامة الصفوية كقشرة خارجية تغطي جوهر التوجهات القومية الفارسية وتطلعاتها القومية.
والكيان الصهيوني, في مقاربة لم يعد بوسعنا تجاهلها, يرى أحقية اليهود في الاستيطان وإقامة الدولة العبرية في فلسطين ومنها يتم التمدد إلى حدود لا تتقاطع أبدا مع الجغرافية المرسومة للدولة الشيعية الصفوية الفارسية تحت نفس النوازع الدينية والشعوبية والعرقية والطائفية.
هنا تلتقي السياسة الفارسية الصفوية الطائفية التي يتستر خلفها المشروع القومي الفارسي مع السياسة اليهودية التي يتخفى خلفها المشروع الصهيوني ومن يعينه ويدعمه من امبريالية متوحشة ولوبيات ومافيات على نقطة العداء للأمة العربية واستهدافها في أرضها وخيراتها ونسيجها الاجتماعي.
يتبع بأذن الله
(ثانيا)
صار لزاما أن نعيد ولو للمرة الإلف كيف دخلت إيران الصفوية الفارسية إلى وسط وجنوب العراق بصيغة التوطن تحت غطاء زيارة المزارات والمراقد المقدسة.فغالبية العجم الذين استوطنوا العراق قد دخلوا تسحقهم الفاقة والفقر ومارسوا الشحاته والعمل كخدم وعبيد عند التجار وملاك الأراضي والفلاحين ووجهاء القوم ولم يحصل أن سجل التاريخ لفارسي أن جاء العراق سيدا كريما يملك أية سلطة.واستغل الكثير من هؤلاء عطف ورحمة العراقيين وضيافتهم وشيمهم الإنسانية الراقية للحصول على الجنسية العراقية التي وصفت رسميا بجنسية التبعية الإيرانية لتمييزها عن العراقيين الاصلاء.
ومع هذه الهيئة الرثة للعجم القادمين إلى البصرة والنجف وكربلاء وبابل وبغداد والقادسية فان بوسع أي عراقي من مناطقنا أن يقف على حقيقة ثابتة وهي إن هؤلاء الوافدين الفرس كانوا يمارسون تثقيفا يتستر بالمذهب غير انه يؤسس لطلاق حقيقي مع المذهب ومع الدين الحنيف. فالكثير من هؤلاء يتحول بعد فترة قصيرة من استيطانه إلى تاجر دين ويرتقي المنابر يبكي الحسين وال البيت ومظلوميتهم بحيث صار الدين والمذهب في لغة هؤلاء ومن يتلقى خطابهم هو واقعة كربلاء ومظلومية أهل البيت لا أكثر ولا اقل وهذا السلوك والممارسة هي اهانة للإسلام الحنيف وخروج عن أصوله وهي بذلك خروج عن فقه وتفسير واجتهاد وعلم الإمام المؤسس للمذهب الجعفري الصادق عليه السلام. وهكذا عبر سنين طويلة صارت زيارة المراقد والمزارات وممارسة جلد الذات وإدماء الوجوه والرؤوس والصدور والظهور هي التعبير الأرقى عن الانتماء للإسلام !! .وصارت مواسم (الدين ) موزعه على النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء حتى يخيل لأي مراقب واع ومعايش إن وراء هذه المواسم ما وراءها من أهداف لا صلة لها بدين ولا بمذهب.
ومع كل التحفظات والوعي بمكامن الخطر المستقرة خلف هذه المواسم فان الدولة العراقية وعموم شعبنا قد تعامل معها على أساس سطحية وعفوية دلالاتها وحاول قدر المستطاع تجاهل البعد السياسي الخطر المستتر خلفها وبالنظر إليها على أنها ( عقائد للعامة يتوجب احترامها وتوفير مستلزمات الأمان والانسيابية لها ) فاحتواها واحتضنها واحترمها حتى بعد أن حظرتها العمامة الفارسية وطردتها من شوارع طهران .
ومع ممارسة التجارة بكل أنواعها من قبل الفرس في مدن العراق المقدسة خلال مواسم الدين والمذهب التي كرسوها لإغراضهم النفعية كان الدعاة الفرس يلقنون الجهلة والمساكين في عمق الريف العراقي المتخلف الفقير وفي دهاليز الظلام مفردات سب وشتم الخلفاء الراشدين والصحابة وأمهات المؤمنين على اعتبارها جزء من ضرورات التقرب إلى أهل البيت والتعبير عن ممارسة دينية ويزرعون البغضاء بين من رحل من سادة العرب المسلمين وإبطالهم ورموزهم التاريخية من جهة ويشكلون أحزابا في قم ومشهد وطهران تحمل هوية عراقية مزورة وحقيقتها أنها أحزاب إيرانية مهمتها استثمار حملات التثقيف الصفوي التي اشرنا إلى جوانب منها أعلاه وتحولها إلى عقائد متطرفة تخفي وراءها أهداف التوسع والهيمنة وتحقيق المصالح الإيرانية الصرفة العابرة لحدود إيران والمخترقة لمشروعية وسيادة العراق ودول الخليج.
تمكنت خلايا العجم من توظيف وتهيئة أرضيات اجتماعية وسياسية لأهدافها البعيدة في العراق وفي السعودية والكويت والبحرين ولبنان وسورية بالوسائل إياها وباستثمار ظاهر ومبطن وخبيث لقمة هرم التشكيل الطائفي السياسي المتمثل بالحوزة والمراجع ووصولا إلى العامة المخدوعة وبواسطة الأدوات المركزية في النفوذ وهي مزارات ومراقد آل البيت عليهم السلام والمظلومية المزعومة التي حشدت تحت عباءتها التعاطف مع إيران على أساس أنها حامية حمى الشيعة والتي تحمل أعظم مظاهر التقديس لمراقد آل البيت والقادرة على ضمان حمايتها وتوفير متطلبات خدماتها المختلفة .
وإذا كان الدخول الفارسي المبرمج إلى العراق قد اخذ ونهج أساليبه الممنهجة بعد استقلال العراق في عشرينات القرن الماضي فان من غير الممكن أن نعزل هذا الدخول عن أروقة المخابرات البريطانية أولا وأميركا والماسونية ثانيا. إن اليقين بعينه إن طائفية إيران الشاهنشاهية غير المعممة هي نفسها التي تصاعدت تحت عمامة الولي الفقيه وأميركا وبريطانيا والصهيونية وكيانها المغتصب لفلسطين تتفاعل بطرائق مختلفة مع بعضها البعض ومن المستحيل أن تتحرك المخالب الفارسية بالوسائل البسيطة التي ذكرناها وتستخدم البساطة لتحقيق ما هو مركب ومعقد وتقني من النتائج بدون أن تتداخل معها مخالب المثلث البريطاني – الأمريكي- الصهيوني.
نحن لم نتهم إيران بشئ إلى اللحظة بل ننقل وقائع قامت بها إيران يحق لنا أن نسميها حقائق سلوك التفريس لجزء حيوي من مواطني العراق ومناطق أخرى من الوطن العربي والفرق الوحيد بين العراق واليمن مثلا هو البعد الجغرافي ليس إلا. وصار لزاما الآن على السياسيين والمثقفين والمتعلمين من شعب العراق وأمة العراق العربية أن يفكروا بالكيمياء العكسية لتهديم البناء الفارسي الهش في وسط وجنوب العراق والمقصود بالكيمياء العكسية هنا هو أن يلتقط العراقيون جميعا أدوات النفوذ الإيراني على ديننا ومذاهبنا وسحب البساط من تحت أقدامهم وارى أن نتذكر هنا السلوك الراقي والعميق لحكم البعث وقيادته في حينها ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1- المراقد والمزارات عراقية عربية وليست فارسية ونحن أولى وأحق بل واجبنا أن نحميها.
2- الزيارة وإحياء ما يظن العامة بأنه جزء من الدين والمذهب ممارسة تقع في إطار تنوع طيف العراق ولا ضير فيها شريطة أن نعزلها عن الأهداف السياسية أي كان منبعها أو مصدرها ومنحها الاستقلالية الشخصية وضمن اطر حق الأفراد في ممارسة ما يرونه مناسبا لدنياهم ولآخرتهم ولن نسمح لأي كان أن يحمي هذه الممارسات من خارج حدود العراق ولا من داخلها غير دولة العراق الوطنية ونترك للتطور الطبيعي للحياة أن يكرس أو ينهي هذه الممارسات . ولعل من المفيد ان نذكر هنا بان بعض مواكب العزاء التي كانت تجوب شوارع المدن العراقية المقدسة كانت مواكب للحزب الشيوعي وأحزاب أخرى الأمر الذي يؤكد سياسية وتجارية ونفعية هذه المناسبات عند البعض.
3- الرئيس الشهيد صدام حسين كان يزور المراقد والمزارات كلها وكذلك قيادة الحزب والدولة وكان الشهداء أولاد الرئيس الشهيد يدعمون الزيارة والزوار بالإطعام والنقل المجاني والدولة والحزب تحمي الزوار وتقدم لهم الحماية وكل الخدمات.
4- الرئيس الشهيد صدام حسين اهتم باكساء المراقد بالذهب العراقي وتأثيثها بأفخم الأثاث وأجمله. واهتم بتطوير المدن العراقية المقدسة بحيث صارت أجمل مدن العراق.
ولعل من المفيد أن نذكر بان دولة البعث الوطنية والقومية لم تمنع أي من ممارسات الزيارة وما يرافقها ماعدا ممارسة التطبير التي تعبر عن سادية وإيذاء للنفس وبشاعة في التعبير الظلامي عن وسائل جلد الذات والجهل والتخلف وصورة من صور الابتعاد التام عن الدين الحنيف. ولم تتصدى أجهزة الدولة إلا لمن حاول استثمار هذه المناسبات ليفجرها أو يحولها من مجرد ممارسات للعامة إلى فعل سياسي يخدم النهج الفارسي المتدخل في شؤون العراق.
أن إيران الطائفية تعمل على طمس هذه الحقائق وغيرها الكثير لتعطي لنفسها ولعبيدها صورة مزيفه على حساب الحق والحقائق. والهدف هو توفير الأرضيات الشعبية والسياسية لأحزابها وميليشياتها العاملة تحت صور التداخل بالمجتمع العراقي التي اشرنا إليها. وجزء مهم من منهج إيران الصفوية هو منح قدسية لسياسيين فرس وعراقيين متفرسين تحت غطاء المذهب وعلى أساس أنهم أهل دين وتقوى في حين أن حقيقتهم هي غير ذلك : أنهم سياسيون فحسب. إن احتواء هذه الممارسات لا يعني بأي حال من الأحوال إلقاء السلاح المقاوم لطرد الفرس من بلادنا بل هو وسيلة احتواء اجتماعي وديني لعزل أهلنا البسطاء عن عجلة التعبئة الفارسية المجرمة.
يتبع بعون الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق