الجمعة، نوفمبر 26، 2010

المقاومة واجب وحق وليست مزاج أو عاطفة

الأستاذ الدكتور كاظم عبد الحسين عباس

أكاديمي عراقي

لم يحصل احتلال أو استعمار في تاريخ البشرية إلاّ وهو مقترن بأسباب ومبررات ودوافع تعبر عن (قناعات) الجهة أو الجهات المخططة والمنفذة له. وبالمقابل, لم يحدث أبدا, في كل تاريخ البشرية أن توافقت قناعات المحتلين والمستعمرين مع قناعات شعوب الأرض التي تعرضت لهذا الفعل العدواني السافر. إن الأهداف الحقيقية في العادة, المعلن منها والباطن, هي تحقيق منافع اقتصادية وسياسية وإيديولوجية واجتماعية لصالح المستعمر، وقد تتضمن إدخال تغييرات طبوغرافية وتربوية وفكرية وثقافية تتقاطع وتعارض ما هو سائد في البلدان المحتلة. الاحتلال والاستعمار يحقق من بين ما يحقق جغرافية إضافية تنتشر فيها أدوات نفوذه وإراداته وخططه على حساب الدول والشعوب المغلوبة. هذه حقائق بديهية ولا جدال فيها، مثلما معروف أيضا إن إرادة الاستعمار والاحتلال قد تنجز وتتحقق في صفحتها الأولى العسكرية غير أنها سرعان ما تجد نفسها أمام الفعل المقابل للشعب الواقع تحت نيرها وظلمها وتعسفها. وتأخذ المقاومة أشكالا مختلفة تقع المسلحة منها موقع القلب والرأس وتشكل أنواعها الأخرى المدنية والمالية والإعلامية والسياسية أطرافا ساندة.

ومن خضم التجارب التي حصلت عبر التاريخ نجد إن الاحتلال والاستعمار يحاول أن يخترق قبل وبعد حصوله أفرادا وقوى ومنظمات وقبائل وعشائر في البلد المحتل لتعمل لصالحه بوسائل وطرائق مباشرة وغير مباشرة. وتعتمد سعة دائرة الاختراق على عوامل عديدة منها ما هو مرتبط بمواقف سياسية متناقضة، أو بالانتفاع المادي أو المناصب الواجهية أو لإغراءات فئوية أو عشائرية أو دينية ظاهرية.

ما حصل في احتلال العراق لا يبتعد كثيرا عن التعميمات المذكورة غير إن ثمة بعض الخصوصيات الواجب تشخيصها لتشكل قواعد للتعمق في موضوعة المقاومة:

1- اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية في تشكيل أرضية الاحتلال والاختراق السياسي المسبق على قـوى

سياسية عارضت النظام الوطني السابق لفترات تربو على عشرين عاما واستقتلت في محاولاتها للوصول إلى السلطة, إلى الحد الذي باعت فيه موقفها الوطني إلى الجهات المخططة للغزو والاحتلال مقابل منحها الفرصة التي استماتت للحصول عليها واصطدمت بقوة النظام الوطني وسعة القواعد الشعبية التي ارتكز عليها طيلة خمس وثلاثين عام.

2- استخدمت أميركا العامل الطائفي المرتكز على فعل إيران كدولة مجاورة للعراق بطريقتين احدهما التعاقد مع إيران مباشرة لتكون أحد دول الاحتلال والغزو عبر التنظيمات الطائفية الإيرانية وما يسندها من مال ومخابرات وقوات إيرانية من حرس الثورة وباستخدام العامل الطائفي داخل العراق وخاصة في وسط وجنوب العراق عبر استخدام عوائل طائفية يحترم الكثير من العراقيين بطيبتهم المعهودة ادعاءات انتماءها لعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وال بيت الرسول سلام الله عليهم.

3- اعتمدت أميركا والأطراف المتعاونة معها على تحريك عوامل عداء وثأر وأحقاد وضغائن لمن سقطوا تحت طائلة القانون عبر ثلاثين عام من عمر الحكم الوطني أو الذين فقدوا أبناء لهم في الحرب مع إيران أو في معارك الكويت وعملت على تحشيد كل هؤلاء في تحركات خيطية في مواضع معينه من الجسد العراقي يعتريها قدر من الوهن الوطني إزاء عوامل التحريك هذه. وإجمالا يمكن القول إن أميركا وإيران قد استخدما عوامل الثأر والضغائن للتغلب على العامل الوطني في عملية تشتيت وبعثرة هذا العامل الوطني في مواضع بعينها يمكن أن يسجل استخدامها خرقا في سياج الحصانة الوطنية.

4- استخدمت أميركا وإيران عامل الولاء الطائفي الذي يتراوح بين مستوى ظاهري شكلي منافق وبين مستوى أعمى لا يميز الأبيض من الأسود للحوزة الدينية في النجف ومرجعياتها التي اشتغلت بفتاوى مدروسة وبتشكيلات توزعت في وسط وجنوب العراق بشكل منسجم مع تقدم ارتال الاحتلال نحو بغداد، وهيئت الأجواء للمجاميع الداخلة من إيران من فيلق بدر وأحزاب الدعوة والمجلس الأعلى وغيرها. والمعروف إن أهم ما ارتكزت عليه المرجعيات في فعلها العميل الخائن هو دعاوى حقن الدم العراقي وعدم جدوى مقاتلة القوة الغازية وقدراتها الأسطورية والتي طرحت بطريقة توحي بالعقلانية والحرص والتقية.

إذن, عوامل البغضاء السياسية وعوامل الثأر والضغائن المبنية على ردود أفعال شخصية وعائلية وعوامل الفرقة والتمزيق العرقي والطائفي تشكل بمجملها مرتكزات لمرحلة الاستعمار بالاحتلال العسكري التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية والطائفية الفارسية لإضعاف رد فعل الشعب العراقي ضد الاستعمار الجديد للعراق باحتلاله بغزو عسكري. ومجمل عوامل الإضعاف التي ركنت إليها أميركا وحلفاءها من العراقيين العملاء أو من سواهم لا يمكن أن تستمر بذات الوتائر القوية، بل هي وبشكل مؤكد وقاطع عوامل وقتية لن تقوى على الثبات لان جلها عاطفية أو منافقة أو كاذبة وستضعف وتذوي مع تقادم الزمن. ويتعجل اختفاء بريقها ويذوي لهب اشتعالها مع تصاعد الوعي بأهداف الاحتلال الاستعمارية وتراكم أفعاله الإجرامية ضد الشعب وبفشل من أعتمدهم في بناء نموذج دولة حقيقية بعد أن هدمت أركان ومرتكزات الدولة في نموذج الاستعمار الأمريكي الجديد الذي نفذ في العراق.

هنا نصل إلى مربط الفرس ... فالاحتلال وشركاءه قد راهنوا على عوامل إضعاف الروح الوطنية العراقية عبر النفوذ السرطاني بنسيجه الاجتماعي بعوامل تمزيق أقحمت في زمن الاحتلال وقبله. إنهم راهنوا على وضع الطائفية والعرقية والثأر الفردي والعائلي والعشائري فوق الوعي باستحقاق القانون والعدل الاجتماعي والنظام ومصلحة الوطن العليا كما هو حاصل في كل دول العالم . غير إنهم لم يحسبوا توازن الفعل مع ردود الأفعال التي ستتشكل مع الزمن ومع هدوء عواصف لحظات التغيير والتي ستتصاعد مع انكشاف التزوير السياسي والإعلامي للغايات المعلنة من قبل القوات الغازية وإفرازاتها على ساحة الوطن المستعمر وتآكل ادعاءاتها على ساحة السياسة الدولية وتهافت نظرية التحرير التي رفعتها القوى المتعاقدة مع الاحتلال بهدف استلام السلطة. وغير هذا حين يدرك الشعب نفاق المرجعيات الحوزوية باستخدامها لنظرية حقن الدماء، إذ إن الدماء لم تحقن، بل سالت وما زالت تسيل انهارا في منحدرات والتواءات الصراع الطائفي والعرقي والسياسي فضلا عن شهوة القتل الإجرامي لقوات الاحتلال والشركات الأمنية الساندة. ومن بين تداخل الألوان هذا تبرز عوامل الارتقاء بالمقاومة الوطنية عن طريق الرهان على قوى الشعب التي أخضعت لمخدرات الاحتلال التي اشرنا إليها وأول الغيث، هو إدراك الناس إن ادعاء التحرير كاذب لان القوة الغازية باقية بالكم والنوع الذي يؤمن المصالح الاستعمارية لأمريكا وإيران والكيان الصهيوني. ومن بين العوامل التي اتضحت لمَن لم يكن مدركا من قبل:

1- إن الحوزة والمراجع وأحزابها ليست حريصة على الدم العراقي، بل إنها ركبت أجنحة الغزاة لتستلم السلطة تحت إمرتهم وتنفذ لهم مآربهم الاستعمارية بواسطة أحزابها وميليشياتها مقابل حفنة منافع شخصية وفئوية على حساب الوطن وعلى حساب أنهار الدم العراقي.

2- إن أميركا لن ترحل من العراق نهائيا وان ادعاءات الرحيل هي للتغطية الساندة لادعاءات الحوزة الإيرانية في النجف والقوى العرقية وان صيغا مثل المعاهدة الأمنية والقواعد الثابتة كاستحقاق لنصرة الحوزة وأحزاب التعاقد مع الاستعمار هي من بين العوامل الضامنة لسنوات طويلة من الاستعمار لبلدنا.

لقد تمكنت الحوزة العميلة في النجف ومراجعها من استخدام العواطف الغريزية والفطرية المتعانقة مع الجهل والعوق الفكري لسواد الشيعة في الفرات الأوسط والجنوب لتخدير العراقيين هناك تحت ذرائع متهافتة في طليعتها حقن دماء الناس وعدم قدرة العراقيين على مواجهة القوة الأسطورية للغزاة. وحقيقة الموقف الحوزوي تم اكتشافه الآن من قبل جل شعبنا في الفرات والجنوب، إذ أدركوا إن الحوزة لم تتدخل دينيا ولا لمصلحة الطائفة أو المذهب، بل تدخلت لضمان سلامة أحزابها القادمة من إيران مثل حزب الدعوة وبدر والمجلس وغيرها وقامت بتأسيس أحزاب جديدة للتغلب على غضب الناس على القادمين من خارج العراق خلف ارتال الاحتلال مثل التيار الصدري وحزب الفضيلة لتضمن توليهم للسلطة تحت حراب الاحتلال. كما إن مَن اندفعوا من أبناء الفرات لتأمين مصالح شخصية أو عائلية أو مالية نفعية قد أدركوا الآن عمق المأزق الذي وضعوا فيه أنفسهم وبدءوا يعتذرون للعراق وشعبه بهذه الطريقة أو تلك عبر التخلي أولا عن أي إسناد لأحزاب الحوزة العميلة.

إن التجسيد الحقيقي لتوبة البعض ولأدراك المحنة الشخصية والعائلية والعشائرية والوطنية للبعض الآخر هي بالعودة إلى الله سبحانه ومنهج الإسلام الحنيف المجاهد المقاتل، الذي يرفض الأدبار والهرب والتخلي عن روح المواجهة لمَن يعتدي على الأرض والعرض. إن إدراك معنى المقاومة المتصاعد هو السبيل الوحيد للتكفير عن ذنوب الانصراف أو اللامبالاة التي أفصح عنها البعض في المرحلة المنصرمة من عمر الاستعمار الأمريكي الإيراني لبلدنا، وهم أبناء شعبنا الذين لا مصلحة لهم على التهاون والمهادنة على حساب وطنهم. وان دعم المقاومة لا يعني بالضرورة حمل السلاح من قبل الجميع فالمقاومون بالسلاح هم نخبة دائما وأبدا إنما يعني الإسناد بالمواقف والمال والمساعدة بالتوعية والتنوير واعتماد منطق المقاومة في الحوار والنقاش والاستعداد للمقاومة السلمية بالتظاهرات والاعتصام والإضرابات.

مقاومة الاحتلال والاستعمار المترتب عليه واجب ديني ووطني مقدس وهو واجب انساني لم يتخلى عنه شعب من شعوب الأرض من قبل، وعلى العراقيين الذين تعاملوا مع صدمة حصوله طبقا لما ترتب على الواقع العراقي الذي فرضه الحصار الظالم المجرم وقبله حروب كان هدفها إسقاط التجربة الوطنية والقومية العراقية الرائدة واصطدمت بقوة عراقية عصية على السقوط والانحناء السهل, أن يستفيقوا فورا من أي وهم اوهموا به أو توهموه هم. لأن بقاء البعض يتفاعل مع معطيات ما بعد الغزو كحال متخاذل ومنبطح أو متردد في مواجهة التحديات التي تهدد العراق حاضرا ومستقبلا والتي تصدّى لها نظامنا الوطني وقيادته الشجاعة ودحرها كلها حتى تدخلت أميركا وبريطانيا ومعها نصف دول العالم الخاضعة لسياسة وإرادة الصهيونية والامبريالية التي تفردت بعد أن أسقطت المعسكر الشيوعي الموازن لتحول العالم كله إلى عبيد لشهوات الاحتلال والاستيطان والاستغلال الإجرامية لمقدرات الشعوب وأوطانها.

إن ما يحصل في العراق اليوم هو صراع بين الشعب العراقي وقواه الوطنية والقومية والمسلمة وبين استعمار يعمل على التوطن بصيغة أمريكية _ صهيونية_ فارسية مطورة عن نسخ الاستعمار التقليدي، ومن الخطأ الفادح أن يستكين أي عراقي لهذا الاستعمار في هذه المرحلة الانتقالية التي يجري بها تحويل إحداثيات الأجندة الاستعمارية من صيغة الاحتلال بالقوة العسكرية إلى صيغة تثبيت الوكلاء والعملاء الذين ستحميهم قواعد ثابتة ودائمة مكفولة بالاتفاقات الأمنية مع هؤلاء الوكلاء والعملاء التي توطن الاحتلال بصيغة استعمارية واضحة وسافرة. وعلينا جميعا أن ندرك إن عدم قدرة كل منّا على إيجاد صيغة من صيغ المقاومة لينتمي إليها إنما هو طريق لعصيان الله سبحانه وتنازل عن حماية العرض والشرف الذي لا يليق ولا يقبل به العراقيون الغيارى أبدا مهما غلت التضحيات ومهما طال زمن المنازلة.

الله اكبر والنصر لمقاومتنا البطلة.




aarabnation@yahoo.com




ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار