الثلاثاء، مارس 18، 2008

ذكريات عن غزو العراق



2008-03-18 :: القدس العربي ::

عبد الباري عطوان

بعد دخول القوات الامريكية بغداد، وانهيار النظام العراقي بحوالي شهر دعيت من قبل شركة النفط البريطانية (B.P) لالقاء محاضرة أمام مجموعة من مدرائها كانوا يبحثون في مؤتمر بامارة دبي افق الفرص الاستثمارية في عراق ما بعد الاحتلال، والصورة التي ستكون عليها المنطقة العربية بأسرها بعد ان يتحول هذا البلد الي واحة للازدهار والرخاء والديمقراطية طبعا.الحاضرون، باستثناء بضعة من المدراء العرب يعدون علي اصابع اليد الواحدة، فوجئوا بالصورة القاتمة التي رسمتها لعراق ما بعد الاحتلال، وكيف ان البلد سيتحول الي ساحة للفوضي والخراب، لانه بلد صعب يستعصي علي الاحتلال، ويملك تراثا خصبا في مقاومة الغزاة. شاهدت الامتعاض علي وجوه اصحاب العيون الزرقاء والبشرة البيضاء، ولسان حالهم يقول ما هذا الهراء، ومن الذي جاء الينا بهذا الخبير الذي لا يفهم شيئا في شؤون المنطقة. وعلمت بعد ذلك ان الشركة فتحت تحقيقا في الامر، والرأس الاكبر فيها طلب شريطا مصورا للمحاضرة، وان الشخص الذي كان خلف اختياري تعرض للمساءلة وربما الطرد.الحادثة الثانية وقعت عندما استدعاني اندرو نيل الصحافي البريطاني ومقدم البرامج السياسية الشهير في محطة تلفزيون بي بي سي للمشاركة في برنامجه الاسبوعي لتناول اوضاع العراق بعد التحرير حيث كنت من المشاركين المفضلين لديه، رسمت صورة قاتمة للوضع، فغضب غضبا شديدا، وكان معي في الحلقة مايكل بورتيللو وزير الدفاع البريطاني الاسبق، وديانا ابوت النائبة في البرلمان، وقال لي بالحرف الواحد: اتحداك انه بعد 18 شهرا من الآن (بعد اسبوعين من الاحتلال) سيصبح العراق نموذجا في الديمقراطية والازدهار الاقتصادي في العالم الثالث بأسره . قلت له اتحداك انه بعد 18 عاما سيظل العراق دولة فاشلة دون امان او استقرار ناهيك عن الديمقراطية. واتفقنا علي ان يستضيفني في برنامجه فور انتهاء مهلة الـ18 شهرا التي حددها لنري من هو الصادق في توقعاته ومن هو الكاذب. حتي هذه اللحظة لم يف المستر اندرو نيل بوعده، واسقطني من برنامجه عدة مرات عندما علم ان منتجيه اتفقوا معي للحديث في قضايا اخري ليست لها علاقة بالعراق لانه لا يريد ان يراني في الاستوديو.. بل ربما علي وجه البسيطة.اغرب الوقائع في نظري تلك التي عشتها عندما دعيت من قبل نادي الصحافة في دبي للمشاركة في ندوة عن الاوضاع في العراق في تشرين الاول (اكتوبر) عام 2003 اي بعد الغزو بستة اشهر، واراد المنظمون، وعلي رأسهم السيدة مني المري رئيسة النادي ان تسخن الأجواء، ولذلك اختارت متعمدة المرحوم احمد الربعي لكي يكون الطرف المقابل، لانها تعرف العلاقة الصدامية بيننا من خلال برامج حوارية في بعض الفضائيات العربية.الندوة بدأت علي الشكل المطلوب حيث تحدث فيها الزميل يوسف ابراهيم وهو امريكي من اصل مصري كان يعمل في صحيفة نيويورك تايمز ثم بعد ذلك الدكتور احمد الربعي، وعندما جاء دوري للكلام عبرت عن ثقتي بالشعب العراقي في مقاومة الاحتلال، وغيرته الوطنية وعروبته المتجذرة. وانتقدت الغزو الامريكي بقوة، وهنا انقض علي الدكتور الربعي مقاطعا، ومجموعة من رؤساء التحرير في صحف كويتية كانوا متأهبين في الصف الاول، بالإضافة الي بعض العراقيين من انصار الاحتلال، وكانوا يعملون في اعلامه، وجري تجنيدهم قبل سنوات مثلما تبين لنا لاحقا، ولم يتركوا تهمة الا واتهموني بها بما في ذلك العمالة لصدام حسين، ومساندة المقابر الجماعية، والمتاجرة بكوبونات النفط، والاخطر من هذا ان نادي الصحافة لم يوجه الي اي دعوة لمؤتمره السنوي لأكثر من اربع سنوات.اما الشيء الذي لا يمكن نسيانه فهو اقدام بعض الجمعيات او المنظمات الكويتية علي توزيع رقم هاتفي النقال علي معظم المشاركين في شبكة الموبايل الكويتية، من خلال الرسائل النصية، وطلبوا منهم توجيه اكبر قدر من الشتائم والشماتة بي بعد سقوط بغداد مباشرة. كانت رسائل من كل الاجناس والاعمار، معظمها علي درجة من البذاءة لم اتصورها من شعب عربي ومسلم، خاصة ان بعضها جاء من سيدات او فتيات، وظلت هذه المكالمات تتوارد ليل نهار، لدرجة اضطررت معها الي الحصول علي هاتف ورقم جديد، ولكنني ما زلت احتفظ بجميع الرسائل (Text) علي جهاز هاتفي القديم وارقام اصحابها، للذكري، وندب حال امتنا والمستوي المتدني الذي وصل اليه بعض ابنائها في الحوار وأدب المخاطبة.ومن المؤلم انه بعد وصول خمس رسائل تباعا من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وبخط يده، بعد سقوط بغداد بحوالي الشهر، عبر جهاز الفاكس الخاص بصحيفتنا يؤكد فيها ان المقاومة ستستمر ويطمئن الأمة بأن العراق لن يستسلم، جاء التشكيك بهذه الرسائل ومصداقيتها من بعض المقربين منه الذين انضموا الي المعسكر الامريكي، ونقلوا البندقية من كتف الي آخر بسرعة قياسية.لا ادعي قدرات خارقة علي معرفة ما لا يعرفه الآخرون، ولا احمل درجة جامعية في علم المستقبليات، ولم اتعاط السحر او قراءة الطالع وضرب الرمل والمندل، ولكن تجارب هذه الامة علمتنا ان جميع شعوب الارض قاومت وتقاوم المحتل حتي يسحب قواته مهزوما، ولم تنتصر قوة احتلال في تاريخ العالم القديم، والمنطقة العربية علي وجه الخصوص، ولن يكون مصير الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين استثناء.نعيش هذه الايام الذكري الخامسة لاحتلال العراق، ولا نري عراقيا واحدا من الذين رقصوا طربا يوم دخول الدبابات الامريكية قلب عاصمة الرشيد يحتفل، او يتبادل التهاني مع اقرانه، ولا نسمع احدا يقول ان هذا اليوم هو يوم التحرير مثلما اراده مجلس الحكم العراقي الذي انبثق بعد الاحتلال مباشرة، وضم نخبة من الذين تآمروا ضد بلادهم، وسهلوا الغزو، وحرصوا علي توفير الغطاء الشرعي له، من مختلف الوان العمائم، ومن جميع المذاهب والاعراق.أبرز الانجازات التي حققها حكام العراق الجديد هي حذف نجمتي العلم العراقي، ونهب عشرات المليارات من عوائد النفط، وتسهيل عمليات التطهير العرقي، والفرز الطائفي، ونشر ثقافة الموت ، واقامة الحوائط العازلة، ونقاط التفتيش، وتعميم الفساد، وقتل الوجه الحضاري التعددي للبلاد، وتطفيش الطبقة الوسطي، واغتيال العلماء.لا نستغرب ان تتزايد الاصوات التي تترحم علي نظام الرئيس الراحل صدام حسين، ليس حبا فيه، وانما كرها بالوضع المأساوي الذي وصلت اليه البلاد، حيث لا امان ولا وظائف ولا استقرار.. بل لا مياه ولا كهرباء ولا كرامة شخصية او وطنية.فأكبر اعداء النظام السابق يقولون علي الاقل كان هناك اولا نظام ثم بعد ذلك يمكن القول انه دكتاتوري او قمعي، اما الآن فهناك فوضي دموية عارمة.عندما قدر لاري ليندزي المستشار الاقتصادي للرئيس بوش تكاليف حرب العراق بحوالي 200 مليار دولار كحد اقصي في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال سارع البيت الابيض بنفي ذلك بشدة باعتباره رقما مبالغا فيه، وقال بول وولفويتز نائب وزير الدفاع الامريكي وأحد ابرز مهندسي الحرب والمحافظين الجدد، ان النفط العراقي سيسدد تكاليف عملية اعادة البناء والاعمار. واكد دونالد رامسفيلد وزير الدفاع ان تكاليف الحرب لن تزيد عن خمسين مليار دولار. الكونغرس الامريكي يقدر تكاليف الحرب حاليا باكثر من عشرة اضعاف تقديرات المستشار ليندزي المسكين الذي طرده البيت الابيض بعد ذلك لانعدام الخبرة والكفاءة.الحرب في العراق هي اكبر خدعة في التاريخ، والمخدوع الاول والاكبر هو الشعب العراقي، وبعد ذلك الامة العربية، خاصة الذين شاركوا فيها بشكل مباشر او غير مباشر من حكامها. اما نحن، وفي هذه الصحيفة، فلم نكن ابدا من بين المخدوعين، وقلنا ان الحرب الحقيقية ستبدأ بعد سقوط بغداد وليس قبله.لا يكفي ان نسرد الخسائر، أو نغرق في المقارنات، المطلوب هو محاسبة كل الذين تسببوا في هذه الكارثة، ابتداء من الرئيس جورج بوش، مرورا بحليفه توني بلير، وانتهاء بالطابور الخامس العراقي.فلا بد ان يستريح شهداء هذه الحرب الذين فاق تعدادهم المليون من ابناء العراق في مقبرتهم الجماعية مطمئنين الي ان هناك من لم ينساهم، ويريد القصاص من كل الذين تسببوا في تيتيم اطفالهم وتمزيق وحدة بلدهم واغراقه في الدماء.

ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار