مقال عراق الغد
الدكتور عزيز الحاج
أما الخطيب، فهو شيخنا السيد صدر الدين القبانجي، العضو القيادي في المجلس الأعلى الإسلامي، ذي المواقع الكبيرة في السلطة؛ وأما الخطبة، فهي خطبة الجمعة ليوم 29 شباط الماضي بالنجف . كان الشيخ الجليل يخطب بمناسبة أربعينية الإمام الشهيد الحسين، فجاءنا بفتاوى عجيبة، ومفاجئة، لا يمكن إلا أن تدل على روح طائفية متأصلة؛ فتاوى تخالف حتى نصوص القرآن الكريم. قال خطيبنا، فيما قال، إن زيارة الأربعينية لكربلاء "تعادل 7 حجات إلى بيت الله الحرام و7 عمرات أيضا." بعبارة واضحة يقول إن كربلاء أهم من مكة! لا نعرف سبب التورط في هذه الفتاوى التي لابد أن تثير تساؤل واستفزاز 85 بالمائة من المسلمين غير الشيعة في العالم؟ أليس في خطاب ديني كهذا ما يثير العقد المذهبية، وما يبعث على تشجيع روح النفور المذهبي؟ إن الإمام الشهيد محبوب لدى غالبية السنة أيضا، وفي القاهرة مثلا هناك مسجد "سيدنا الحسين"، الذي يؤمه الناس، ويتبركون بمقامه، ولكن هؤلاء يعتبرون حج مكة الفريضة الكبرى في الإسلام. لقد قلنا مرارا إن تكريم ذكرى الإمام لا يتم بقرع الطبول، وجرح الصدور، وطعن الرؤوس، ولا يتم بالدعاية لأفضلية مذهب على آخر. إن خطبا من هذا النوع تسئ للتشيع والشيعة ولا تخدمهم أبدا. إن كتاب عباس العقاد المصري، السني المذهب، المعنون "سيد الشهداء"، يكرم الإمام الشهيد مئات المرات، ومئاتها، أكثر من جميع الخطب الطائفية، وطقوس العنف، وتعذيب الجسد. لقد أدان الخطيب، وهو على حق، التطرف الوهابي، وهاجمه بعنف، ولكن ذلك يرد في غير سياقه المنطقي، بل يرد في سياق المفاضلة بين كربلاء ومكة، وبحجة أن الخدمات في الأولى أفضل، علما بأن الخدمات أمور إدارية واجتماعية لا علاقة لها بالدين وفروضه. لو أن السيد القبنانجي أدان الوهابية في سياق إدانة الإرهاب الإسلامي، ودور التطرف الديني الوهابي في توليده وترسيخه، لكان الموقف سليما ومطلوبا. لم يكتف الخطيب بفتواه عن الأفضلية في الزيارات، بل جاءنا بفرمان يقضي بأن العشرة ملايين ممن زاروا في الأربعينية، [ زاروا على وجبات لا مرة واحدة كما ّيفهم من كلامه]، تحولوا جميعا إلى ملائكة، رموا خلفهم متاع الدنيا ورغباتها، وتحولوا إلى متطلعين للفوز بأجر وثواب الزيارة ! نسأل: من الذي خوله لجعل عشرة ملايين، وعلى دفعة واحدة، ملائكة أطهارا فوق البشر؟! وكيف عرف أن الملايين العشرة جميعهم أتقياء مطهرون، وليس بينهم منافق، أو مقترف جرم، أو لواط، أو محترف عنف؟ لا نزال نتذكر ما كان يجري في الثلاثينات والأربعينات ومن صدام مسلح بين المواكب الحسينية نفسها، بين موكب الكاظمة وموكب كربلاء، وبين موكبي كربلاء والنجف. لماذا كان ذلك يحدث؟ لأنهم حولوا الزيارة لمجرد طقس تقليدي دون الاتعاظ بمغزى المناسبة ودروسها، طقس يتنافسون في أي منهم هو الأفضل في أدائه، ومن الأكثر عددا. فهل كان هؤلاء ملائكة أطهارا، مع أنه كانت بينهم أقلية، وكما اليوم، أشرار، وسراق، ومنافقون، يتسترون بالزيارة، أو يأملون غسل ذنوبهم الكبيرة ليعودوا وهم يشعرون بالأمان لاقتراف ما يشاءون. هل أفراد كهؤلاء، ورغم قلة عددهم، هم بين الملايين العشرة من الملائكة؟! حقا إن عبقرية الإسلاميين قادرة كل يوم على ابتكار الجديد من الدعوات والفتاوى التي لا يقصد بها غير تضليل العقول والنفوس. إن الهموم العراقية الراهنة هي أكبر وأخطر من هموم السيد الخطيب. لقد كان منتظرا من قادة الأحزاب الإسلامية، ورجال الدين، بمذهبيه السني والشيعي، أن ينشروا ما يساعد على تقوية الوحدة الوطنية، وتماسك الشعب في وقت تصاعد تيارات التطرف الديني، السني، والشيعي. أجل، ماذا فعلوا مثلا لإدانة اضطهاد المسيحيين والصابئة المندائيين، وللتبشير بأن الجميع مواطنون متساوون في الحقوق، وأنه لا يوجد عراق درجة عليا وعراقي درجة دنيا بسبب دينه؟ أين فتاواهم لتكفير حرق الكنائس، وخطف وقتل رجال الدين المسيحيين؟ أين هم اليوم مثلا من خطف كبير أساقفة الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في الموصل، المطران بولس فرج رحو؟! بل أين الموقف الحازم المطلوب من حكومة، تهيمن عليها الأحزاب الشيعية، لحماية المسيحيين، ومعاقبة كل من يعتدي عليهم، فيما يجري اضطهادهم منذ خمس سنوات على أيدي القاعدة، ومتطرفي السنة، والمليشيات الشيعية؟! لا يمكن، في رأينا، انتظار ما هو أكثر من رجال الدين المسلمين في الموقف من الأقليات الدينية، حيث أنهم، على اختلاف مذاهبهم، يعتبرون غير المسلمين "كفارا ذميين"، أي مواطني الدرجة الدنيا. نسأل أيضا أين السيد القبانجي من جرائم جيش المهدي، الذي راح الخطيب يكيل المديح لزعيمه الصدر رغم التناحر بين الطرفين؟ لا نقول طبعا عن الموقف من الغزو الإيراني الكثيف للعراق، فهذا سؤال نعرف جوابه لتورط الأحزاب الحاكمة في تسهيل هذا الغزو المتعدد الرؤوس، والجوانب. إن المفترض برجال الدين، وقادة الأحزاب الإسلامية، نشر قيم التسامح، والحرية الدينية، والمساواة بين العراقيين من مختلف الأديان، والقوميات. ولكن هذا واجب هم مقصرون فيه مع الأسف
الدكتور عزيز الحاج
أما الخطيب، فهو شيخنا السيد صدر الدين القبانجي، العضو القيادي في المجلس الأعلى الإسلامي، ذي المواقع الكبيرة في السلطة؛ وأما الخطبة، فهي خطبة الجمعة ليوم 29 شباط الماضي بالنجف . كان الشيخ الجليل يخطب بمناسبة أربعينية الإمام الشهيد الحسين، فجاءنا بفتاوى عجيبة، ومفاجئة، لا يمكن إلا أن تدل على روح طائفية متأصلة؛ فتاوى تخالف حتى نصوص القرآن الكريم. قال خطيبنا، فيما قال، إن زيارة الأربعينية لكربلاء "تعادل 7 حجات إلى بيت الله الحرام و7 عمرات أيضا." بعبارة واضحة يقول إن كربلاء أهم من مكة! لا نعرف سبب التورط في هذه الفتاوى التي لابد أن تثير تساؤل واستفزاز 85 بالمائة من المسلمين غير الشيعة في العالم؟ أليس في خطاب ديني كهذا ما يثير العقد المذهبية، وما يبعث على تشجيع روح النفور المذهبي؟ إن الإمام الشهيد محبوب لدى غالبية السنة أيضا، وفي القاهرة مثلا هناك مسجد "سيدنا الحسين"، الذي يؤمه الناس، ويتبركون بمقامه، ولكن هؤلاء يعتبرون حج مكة الفريضة الكبرى في الإسلام. لقد قلنا مرارا إن تكريم ذكرى الإمام لا يتم بقرع الطبول، وجرح الصدور، وطعن الرؤوس، ولا يتم بالدعاية لأفضلية مذهب على آخر. إن خطبا من هذا النوع تسئ للتشيع والشيعة ولا تخدمهم أبدا. إن كتاب عباس العقاد المصري، السني المذهب، المعنون "سيد الشهداء"، يكرم الإمام الشهيد مئات المرات، ومئاتها، أكثر من جميع الخطب الطائفية، وطقوس العنف، وتعذيب الجسد. لقد أدان الخطيب، وهو على حق، التطرف الوهابي، وهاجمه بعنف، ولكن ذلك يرد في غير سياقه المنطقي، بل يرد في سياق المفاضلة بين كربلاء ومكة، وبحجة أن الخدمات في الأولى أفضل، علما بأن الخدمات أمور إدارية واجتماعية لا علاقة لها بالدين وفروضه. لو أن السيد القبنانجي أدان الوهابية في سياق إدانة الإرهاب الإسلامي، ودور التطرف الديني الوهابي في توليده وترسيخه، لكان الموقف سليما ومطلوبا. لم يكتف الخطيب بفتواه عن الأفضلية في الزيارات، بل جاءنا بفرمان يقضي بأن العشرة ملايين ممن زاروا في الأربعينية، [ زاروا على وجبات لا مرة واحدة كما ّيفهم من كلامه]، تحولوا جميعا إلى ملائكة، رموا خلفهم متاع الدنيا ورغباتها، وتحولوا إلى متطلعين للفوز بأجر وثواب الزيارة ! نسأل: من الذي خوله لجعل عشرة ملايين، وعلى دفعة واحدة، ملائكة أطهارا فوق البشر؟! وكيف عرف أن الملايين العشرة جميعهم أتقياء مطهرون، وليس بينهم منافق، أو مقترف جرم، أو لواط، أو محترف عنف؟ لا نزال نتذكر ما كان يجري في الثلاثينات والأربعينات ومن صدام مسلح بين المواكب الحسينية نفسها، بين موكب الكاظمة وموكب كربلاء، وبين موكبي كربلاء والنجف. لماذا كان ذلك يحدث؟ لأنهم حولوا الزيارة لمجرد طقس تقليدي دون الاتعاظ بمغزى المناسبة ودروسها، طقس يتنافسون في أي منهم هو الأفضل في أدائه، ومن الأكثر عددا. فهل كان هؤلاء ملائكة أطهارا، مع أنه كانت بينهم أقلية، وكما اليوم، أشرار، وسراق، ومنافقون، يتسترون بالزيارة، أو يأملون غسل ذنوبهم الكبيرة ليعودوا وهم يشعرون بالأمان لاقتراف ما يشاءون. هل أفراد كهؤلاء، ورغم قلة عددهم، هم بين الملايين العشرة من الملائكة؟! حقا إن عبقرية الإسلاميين قادرة كل يوم على ابتكار الجديد من الدعوات والفتاوى التي لا يقصد بها غير تضليل العقول والنفوس. إن الهموم العراقية الراهنة هي أكبر وأخطر من هموم السيد الخطيب. لقد كان منتظرا من قادة الأحزاب الإسلامية، ورجال الدين، بمذهبيه السني والشيعي، أن ينشروا ما يساعد على تقوية الوحدة الوطنية، وتماسك الشعب في وقت تصاعد تيارات التطرف الديني، السني، والشيعي. أجل، ماذا فعلوا مثلا لإدانة اضطهاد المسيحيين والصابئة المندائيين، وللتبشير بأن الجميع مواطنون متساوون في الحقوق، وأنه لا يوجد عراق درجة عليا وعراقي درجة دنيا بسبب دينه؟ أين فتاواهم لتكفير حرق الكنائس، وخطف وقتل رجال الدين المسيحيين؟ أين هم اليوم مثلا من خطف كبير أساقفة الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في الموصل، المطران بولس فرج رحو؟! بل أين الموقف الحازم المطلوب من حكومة، تهيمن عليها الأحزاب الشيعية، لحماية المسيحيين، ومعاقبة كل من يعتدي عليهم، فيما يجري اضطهادهم منذ خمس سنوات على أيدي القاعدة، ومتطرفي السنة، والمليشيات الشيعية؟! لا يمكن، في رأينا، انتظار ما هو أكثر من رجال الدين المسلمين في الموقف من الأقليات الدينية، حيث أنهم، على اختلاف مذاهبهم، يعتبرون غير المسلمين "كفارا ذميين"، أي مواطني الدرجة الدنيا. نسأل أيضا أين السيد القبانجي من جرائم جيش المهدي، الذي راح الخطيب يكيل المديح لزعيمه الصدر رغم التناحر بين الطرفين؟ لا نقول طبعا عن الموقف من الغزو الإيراني الكثيف للعراق، فهذا سؤال نعرف جوابه لتورط الأحزاب الحاكمة في تسهيل هذا الغزو المتعدد الرؤوس، والجوانب. إن المفترض برجال الدين، وقادة الأحزاب الإسلامية، نشر قيم التسامح، والحرية الدينية، والمساواة بين العراقيين من مختلف الأديان، والقوميات. ولكن هذا واجب هم مقصرون فيه مع الأسف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق