الثلاثاء، يونيو 25، 2013


الصمت المخزي حول أوضاع اسرى الحرية في العراق من الاستجواب الى الغرغرينا [ القسم الأول ]
ا.د. عبد الكاظم العبودي / الامين العام لهيئة التنسيق المركزية لدعم الانتفاضة العراقية
من غباء سلطات الاحتلال الامريكي في العراق انها تعاملت في سجونها مع الأسرى والمعتقلين السياسيين انهم مجرد أفراد موقوفين لديها، وتعاملت معهم بانهم أشخاص مجهولي الهوية والانتماء، أو انهم مصنفين بوليسيا لديها بأنهم مجرد أفراد مشكوك بهم، لرفضهم الاحتلال والمشاركة في العملية السياسية التالية التي فرضها الغزاة على العراق تحت الاكراه والقمع الدموي.
وخلافا لكل القوانين الدولية حول معاملة الاسرى والمعتقلين في أوقات الحروب والاحتلالات، فان الولايات المتحدة أظهرت انها الدولة الأكثر مروقا واستهتارا في الخروج على القانون الدولي واتفاقيات جنيف وحتى على جميع الشرائع الانسانية؛ بلغ الاستهتار بالقوات الامريكية انهم تعاملوا مع الخصوم بخسة ونذالة وكانوا بعيدين كل البعد عن مواقف الفروسية والرجولة تجاه معارضيهم وسكان البلاد المحتلة.
ولأن سلطات الاحتلال الأمريكي لم تقنع أيا من الاحرار العراقيين، ولا حتى البسطاء من العامة من الناس، بمبررات إقدامها على غزو العراق واحتلاله وتدميره بشكل شامل ومقصود، لذا حجبت قيادة الولايات المتحدة أيضا أسباب اجبارها على الخروج من العراق بهزيمة مدوية، قلما تعرضت لها دولة عظمى قبلها في الحروب والغزوات.
عندما قررت الادارة الامريكية سحب قواتها من العراق تركت بصمات الانتقام ضد خصومها بشكل واضح، خاصة عندما خططت لتفكيك الدولة العراقية والمجتمع العراقي من خلال تجنيد أيادي محلية عراقية قبلت المشاركة والتورط بآثام الاحتلال وظلت مستعدة لتنفيذ ما تبقى من المهام القذرة الموكولة لها، كانت أولها الايغال في الانتقام من رجال المقاومة العراقية، والتنكيل بهمن وتمديد فترات اعتقالهم، وتلبيسهم تهما مفبركة قصد الإساءة اليهم، وتشويه مئآثرهم الوطنية، كرجال مقاومة وتحرير.
ومنذ انسحاب القوات العسكرية الامريكية من العراقن وتركها واحدة من أكبر السفارات في العالم مسلحة بعتاد وقدرات تتجاوز قدرات الدولة العراقية الكسيحة التي يتم تسييرها من المنطقة الخضراء، وتسيرها ايادي مخابراتها وخبراتها الامنية. وهكذا اعطت الادارات الامريكية المتعاقبة خلال العشرية الدموية السوداء الاخيرة انها ظلت وراء كل الجرائم وهي المسؤولة عن كل هذا العبث الكارثي بمصير العراق. وهي حين قررت الانسحاب من العراق ظلت تمارس إجراءات إحترازية غادرة ضد أحرار العراق، من خلال التكليف والتسيير لحكومات الاحتلال المتعاقبة ومجلس نوابها، وهيئات قضائها، بتمديد فترة بقاء الاسرى العراقيين الى أطول الآجال، وبذلك تم تجاهل مطالب الشعب العراقي حول حرية المعتقلين والافراج الفوري عنهم ولو بقانون وطني يتفق عليه للعفو العام.
وهكذا تبقى حكومة الولايات المتحدة مسؤولة عن مصير حياة الأسرى في العراق؛ كونها قامت بتسليمهم، وهم سجنائها، لإدارة الحكومة الاحتلالية الخامسة، وبذلك وضعت مصائرهم تحت رحمة خصوم سياسيين، أظهروا انهم ليسوا برجال دولة ولا قادة مجتمع ؛ بل هم طلاب ثأرات وانتقام دموي غير مخفي عن الجميع، فالمسؤولين عن تسيير الحكومة العراقية، وجلهم من عملاء الاحتلال، كانت دوافع الانتقام كامنة في نفوسهم حتى باتت أكثر من حالة مرضية وسادية، وهي تضاف الى صفاتهم التي حددها السفير بول بريمر، الحاكم المدني الامريكي السابق، بوصف من خدموا ادارته من العراقيين بأرذل الصفات.
ولأنهم حُملوا الى السلطة والحكم في العراق من دون استحقاق شعبي او انتخابي أو كفاءة سياسية او علمية، فالاميون وحاملي الشهادات والرتب العسكرية والامنية المزورة ، وخاصة أؤلئك الجلادون المنسبون الى ما يسمى بوزارة العدل وإدارات السجون وتسيير المحاكم ومؤسسات القضاء، جلهم ذووا توجهات تتسم بالحقد الطائفي والسياسي والانحراف الاخلاقي.
عشرة سنوات مرت على الاحتلال ولا تزال مشكلة المعتقلين العراقيين في سجون ومعتقلات القوات الأميركية السابقة وبعدها في معتقلات حلفائها، يلفها الصمت المريب،خاصة تلك السجون والمراكز الأمنية السرية التابعة للمليشيات ، وكواليس السلطات العراقية الخاصة بالقمع، باتت تشغل الرأي العام الوطني والدولي، وتزداد أخبار فضائحها وجرائمها يوما بعد يوم،وعلى مدار الساعة .
فمنذ نشر شبكة (سي بي إس نيوز) الأميركية في 28 أبريل/نيسان 2004 فضائح التعذيب في المعتقلات الامريكية، والعالم الحر مصدوم، ببشاعة مانقلته وكالات الانباء من صور مرعبة كان ابطال جرائمها قوات امريكية كانت تدعي " أنها جاءت لتحرير العراق" ولكن الحقيقة كانت تشير الى ان تلك القوات جاءت لتعذب العراق، تؤكدها مئات الصور التي تكشف سادية تعذيب الجنود الامريكيين لسجناء عراقيين في سجن أبو غريب وبأوضاع لا يمكن ان تضع لها خلاصة او تحليل نهائي يعبر عن دوافع فاعليها.
ان دروس الصدمة والترويع التي قدمتها إدارة بوش للعالم، لا تنحصر ببشاعة افعال الاحتلال العسكري للعراق وقنبلة المدن الآهلة بالسكان وتدمير كل ما له صلة بالحياة،؛ بل في جملة لا تحصى في مقالة من الممارسات المرعبة التي أقدمت عليها دولة عظمى، تدعي التحضر، ضد شعب ومجتمع وثقافة وحضارة يعترف كل العالم لها بالفضل والامتنان لريادتها في كل المجالات عبر حقب التاريخ والماضي وحتى الحاضر.
تتفق جميع المنظمات الحقوقية على أن قضية المعتقلين في العراق شكلت وتشكل الانتهاك الأبرز لحقوق الإنسان، لأنها القضية الوحيدة في العالم التي ظلت معطياتها وحجم آلامها وتعداد ضحاياها، خاضعة للتقديرات والاجتهادات والمساومات، ولكونها القضية الوحيدة في العالم التي لا تتوفر عنها معلومات دقيقة وتوثيق محايد، وعدالة دولية، ولأنها الكارثة البشرية التي تقترب من معايير جرائم الابادة ضد الانسانية التي لا يعرف العالم عن أعداد الضحايا من الاحياء والأموات فيها، ولا يعرف العالم، بسبب التعتيم الاعلامي الكبير، عن أوضاعهم الإنسانية أو مصير من تبقى من الاحياء، الذين نقلتهم القرارات العسكرية الامريكية المتهورة من سجن أمريكي الى بديله معتقل عراقي تتوسع حدود مظالمه يوما بعد يوم.
ان التفاوت في الارقام المنشورة حول تعداد المعتقلين في العراق خلال هذه العشرية الدموية السوداء تبقى واحدة من كبرى الفضائح الدولية التي تدين حكومة الولايات المتحدة أولا، كدولة إحتلال، وتتبعها ادانة لعديد هيئات الامم المتحدة التي أقرت عبر قراراتها: ان ما جرى في العراق يعتبر احتلالا عسكريا، وغزوا غير شرعي وغير مبرر، ويشمل هذا العار المخزي الكثير في سياقاته الابعد لجان حقوق الانسان ومنظمة العفو الدولية ورجال القانون الدولي والإنساني في العالم طالما استمر الصمت المتواطئ مع الادارة الامريكية خشية الفضيحة المدوية .
تختلف المصادر المحلية والأمريكية والدولية فيما بينها، خاصة حول عدد المعتقلين والسجناء العراقيين في السجون الخاضعة لإدارة السلطة العراقية التي نصبها الاحتلال أو في سجون ومعتقلات القوة المتعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، رغم مرور عشرة سنوات على غزو واحتلال العراق.
تطورت الحالة اللا انسانية للسجناء والمعتقلين في العراق الى الأسوء بعد الاعلان الرسمي للانسحاب الامريكي وبدء ادوار مسرحية ما سمي باعادة السيادة للعراق عبر ما سمي بالحكومة العراقية، التي حولت العراق الى محتشد بشري يضم أكبر عدد من السجون، ومناطق التهجير والابعاد القسري؛ وصار الانسان العراقي سلعة للمتاجرة وحقل للتجارب وطرق التعذيب وانتزاع الاعترافات بانتقاله من سجون الجيش الأمريكي، إلى سجون الحكومة العراقية ورزمة سجون وزارات الداخلية والدفاع والأمن القومي والمخابرات، ووصل الأمر إن الأحزاب السياسية الطائفية المتسلطة فتحت سجونها الخاصة ومارست القمع والترهيب والاعتيال للخصوم عبر نشاط مليشياتها وعصاباتها المنظمة في سائر محافظات العراق.
تذكر المصادر الرسمية، لما يسمى بالحكومة العراقية، التي تسلمت بشكل مسرحي فترة الانتقال، وما سمي باستعادة السيادة على المحافظات والمعسكرات والمعتقلات من القوات الامريكية المنسحبة تدريجيا، والتي خصص لها جهة رسمية عراقية راعية ومتخصصة هما وزارة العدل من جهة ، ووزارة اخرى وظيفتها التستر على مظالم الاولى وفضائحها ممثلة في وزارة حقوق الإنسان العراقية. وعندما تتكتم وزارة العدل على الارقام والفضائع فان الوزارة الثانية التي ظلت متشردة من دون بناية وميزانية وموظفين لسنوات عدة لكنها تجرأت مرة في القول: أن عدد المعتقلين العراقيين خلال فترة تواجد القوات الامريكية في العراق بلغ حوالي 31 ألف معتقلا، منهم 14 ألفا في السجون التابعة للقوات الأميركية. أما عدد المعتقلين في معسكرات القوة المتعددة الجنسيات، فقد صرح الجيش الأمريكي في فبراير/شباط 2008 عنها : بأن عدد المحتجزين بلغ 23 ألفا وتسعمائة شخص، منهم ثلاثة آلاف وخمسمائة في معسكر كروبر، بالقرب من مطار بغداد، وعشرون ألفا وأربعمائة سجين في معسكر بوكا، جنوبي البلاد، ويضم هذا العدد من السجناء 620 طفلا.
وحسب تصريحات سابقة منسوبة الى ممثلة اتحاد الأسرى والسجناء السياسيين العراقيين الحقوقية العراقية سحر الياسري: فإن عدد المعتقلين العراقيين وصل إلى أربعمائة ألف معتقل، منهم ستة آلاف وخمسمائة حدث، وعشرة آلاف امرأة.
وكما اشرنا ان تلك الارقام تظل غير دقيقة ويجري التقليل منها بذرائع امريكية شتى ،ولا توجد إحصاءات دقيقة ووثائق كاملة التدوين حتى هذه اللحظة عن عدد السجون والمعتقلات الأمريكية في العراق؛ لان اغلب السجناء كان يتم نقلهم من مكان الى آخر، وهم معصوبي الأعين ومربوطي الاطراف، وتحت الصدمات الكهربائية والتجويع المقصود، ومنهم من كان يجهل مكان تواجده، وجهة اعتقاله، ولتداخل التعاون الامني بين حراس الحكومة وقواتها ومليشياتها مع الشركات الامنية الخاصة ، التي كانت تكلفها القوات الامريكية بممارسة العديد من الافعال القذرة لإذلال المعتقلين وادارة السجون بخبرات امريكية، ضاعت الحقائق المراد توضيحها للعالم . 
وقد أكدت الحقوقية سحر الياسري حينها وجود 36 سجنا رسميا عدا أبو غريب، وتقع هذه السجون في كافة المحافظات، بما فيها شمال العراق بكردستان، ناهيكم عن السجون الواقعة في القواعد العسكرية الأميركية التي لا يعرف عددها بالتحديد. ولكن المؤكد والمعلن ان القوات الأمريكية كانت تدير ثلاثة سجون كبيرة، هي معتقل معسكر بوكا في قضاء أم قصر بمحافظة البصرة جنوبي البلاد، وسجن كروبر قرب مطار بغداد الدولي، وسجن سوسة في محافظة السليمانية شمالي العراق.
حسب تقارير الأمم المتحدة ولجان حقوق الانسان في اقليم كردستان تكون أوضاع النظام القضائي في الاقليم الكردي، بشمال العراق، ليست في حال أفضل بكثير.. فقد سجلت تقارير حقوقية عديدة حالات احتجاز لمعتقلين ولفترات طويلة تعرض لها مواطنون عراقيون من كل القوميات، وجرى احتجازهم بناء على اتهامات غامضة و كيدية ، ولاغراض شتى منها سياسية او جنائية، ومنها بسبب مواقف منحازة تسجل على لائحة التحالف الكردستاني الحاكم للاقليم، والمتحالف مع حكومة المالكي لتشكيل أغلبية حاكمة.
وكما ترد تقارير عديدة من ساحات الاعتصام والتظاهر في محافظات ديالى وكركوك وصلاح الدين والموصل، معظمها تتحدث عن اعداد غير قليلة من العرب والتركمان وحتى الكرد وهم مغيبون منذ سنوات في معتقلات او مراكز تحقيق سرية يشرف عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحليفه الاتحاد الوطني الكردستاني. كما أشارت تقارير كردية الى أفضع من ذلك ان السطات الحاكمة في الاقليم والمركز تتبادلان الخبرات القمعية ويتنقل بين سجونهما العديد من ضباط التحقيق من ذوي السمعة السيئة وهم من أصحاب السوابق العدلية أومن اشتغلوا كجلادين سابقين في فترات سابقة. لقد تم تسجيل تأخيرات كثيرة في تقديم بعض المحتجزين او المعتقلين الى المحاكمات لفترات منها وصلت إلى أربع سنوات .
يعد معسكر بوكا من أكبر مراكز الاعتقال الأمريكية، وقدر أحد الضباط الأميركيين حينها: ان عدد المعتقلين فيه بلغ عشرين ألفا، وتشير بعض المصادر إلى أن العدد يتجاوز العشرين ألفا، واستنادا الى ما ذكرته وزيرة حقوق الإنسان في العراق وجدان ميخائيل: أن عدد المعتقلين كان يقارب 18 ألفا، سجلتها الوزيرة المذكورة كرقم رسمي، بعد زيارتها الشخصية رسميا للسجن .
هناك ما يسمى بالمخيمات أو " الكامبات" التي وصل بها الأمر الى تقسيمها على أساس طائفي، أو جهوي، لزرع الشكوك والانتقام من بعض السجناء الذين يجدون في محاربة رفاقهم السجناء عذابا لا يمكن تحمله ولزرع بذور الانشقاق في النسيج الوطني والاجتماعي، كما ذكر ذلك ضابط أميركي. وصل عدد تلك " الكامبات" الى 32 مخيم اعتقال، يؤوي كل واحد منها ما بين خمسمائة إلى ألف محتجز ، وكانت ظروفها السيئة ان معتقليها عاشوا تحت قساوة تغير الانواء والأجواء المناخية وعصف الرياح والعواصف الترابية والغبار وتغير درجات الحرارة المتقلبة في حر الصيف وبرودة الشتاء وحتى ما بين ساعات النهار والليل في اليوم الواحد.
كانت ادارات السجون تتزود مباشرة بالتعليمات والموافقات الرسمية من ادارة البيت الابيض والبنتاغون وحتى الخارجية الامريكية تخولها رسميا جواز انتزاع الاعترافات من السجناء بوسائل القوة الغاشمة والتعذيب بكل الوسائل، التي وصلت منها بشكل سري الى ايادي ضباط متخصصين، كانت واحدة من ثمار وعبقرية رائد الاجرام الامريكي السفير نيغرو بونتي وخليل زادة. وفي بعض الحالات وصلت التعليمات الى فرض التقنين والوصف الكامل لطرق التعذيب التي تم التبليغ بها عبر مراسلات وصلت الى القائمين على ادارة السجون الامريكية في العراق، وهنا لا يمكن تبرئة وزارة الدفاع الامريكية وهيئة المخابرات الامريكية وحتى الخارجية، التي كانت ترسل تباعا نشريات خاصة لضباط الارتباط في السجون، تتضمن تعليمات وطرق الاستنطاق، وحتى بجواز استخدام وسائط التعذيب المحرمة دوليا ،كالكهرباء والإغراق الكامل للرأس بالماء، والتنقيط على رأس منزوعة الشعرولساعات طويلة، والازعاج المتكرر لمنع النوم ، وسلب راحة المعتقل، واطلاق الاصوات المخيفة والمرعبة وإصدار الكوابيس الصوتية والضوئية واللايزرية... الخ.
ونفس الشئ يمكن أن يقال عن ممارسات القوات البريطانية وفضائحها في سجونها الخاصة في جنوب العراق، وخاصة في محافظة البصرة. وبدرجات متفاوتة لبقية قوات التحالف من بلدان اخرى.
قبل سنتين من اعلان الانسحاب الامريكي من العراق، أكد كليف ستافورد سميث، المحامي البريطاني والمدير التنفيذي لمنظمة ريبريف، التي تدافع عن عشرات المعتقلين في سجن غوانتانامو العسكري الأمريكي بكوبا : أن الولايات المتحدة تحتجز 27 ألف شخص في سجون سرية حول العالم. وقال ستافورد: "هناك عدد ضخم من السجناء يتم اعتقالهم في العراق بصورة سرية، ولدي معلومات مؤكدة بأن الولايات المتحدة تجلب أشخاصًا إلى العراق لاحتجازهم بصورة مريبة هناك". وأضاف المحامي البريطاني، وفقًا لشبكة "ديمقراطي ناو" : " واشنطن تضمن بهذا الأسلوب إبعاد الإعلاميين والمحاميين والحقوقيين عن السجناء الذين يراد التغطية على قضاياهم وملابسات اعتقالهم، وبالتالي يحرم هؤلاء الأشخاص من كل حقوقهم القانونية". .
كانت صحيفة واشنطن بوست قد ادعت يوما عندما أشارت إلى أن شبكة المعتقلات الدولية السرية للإدارة الامريكية التي كانت تمثل لتلك الادارة عاملاً مركزيًا لما سمي في "الحرب غير التقليدية"، التي يشنها الجهاز الأمريكي على ما يسمى بـ "الإرهاب". وترى الصحيفة: انه بالاستناد إلى ما سمي بالمخاوف على الأمن القومي الامريكي والقيم التي أنشئت من أجلها السجون السرية عبر بلدان عديدة في العالم ومنها العراق والاردن وبولونيا، تمكنت وكالة المخابرات الامريكية "سي.آي. إيه" والبيت الأبيض من تجنيد امكانيات محلية ودولية كبيرة عبر العالم ووضعت الميزانيات الكبيرة لها ومنها استخدامها لطائرات خاصة ونزولها وانتقالها عبر مطارات خاصة عبر العالم. وعندما كثرت فضائح التعذيب والنقل للسجناء والابرياء تم استدعاء المسؤولين عنها للاستجواب أمام لجان الكونجرس الأمريكي، ولكن القوى المجرمة في تلك الاجهزة ظلت تتهرب عن الحضور والافصاح عن حجم تلك الجرائم بحجة مطالبة الجهاز الإستخباراتي منها عدم الإجابة على التساؤلات المطروحة في الصحافة الامريكية والعالمية وحتى في تقديم شهادة علنية او سرية حول أوضاع المعتقلين بحجة الحفاظ على اسرار الامن القومي او الخوف من اهتزاز الصورة الاخلاقية لقادة وجيش ومؤسسات الولايات المتحدة في العالم وامام الشعب الامريكي الذي باتت تزعجه فضائح سجن ابو غريب وصور غوانتانامو .
لقد تهرب القادة العسكريون الامريكيون، خاصة المسؤولون منهم عن فضائح التعذيب في العراق، في سجن أبو غريب وغيره، وامتنعوا بأوامر قادتهم حتى عن الحضور الى جلسات الاستجواب الخاصة التي طالب بها عدد من اعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، وعندما جرت بعض الجلسات بفضل الصراع الحزبي المحتدم بين الجمهوريين والديمقراطيين جرت التغطية على تلك الجلسات، ومنع الحضور الاعلامي لها بحجة سرية القضايا، وحساسيتها، وصلتها بالامن القومي الامريكي.
بعد توقيع الاتفاقية الامنية بين حكومة المالكي والقوات الامريكية التي كانت تحضر لمرحلة الانسحاب، تظل العديد من حقائق السجون الامريكية في العراق وفضائحها في طي الملفات السرية ، ومع ذلك فقد تمت بعدها صفقات أمنية أخرى مريبة، تشير الى حالات من الريبة والقلق؛ خاصة بعد ان بلغ عدد المراكز الامنية وأماكن الاحتجاز والتحقيق السرية وتوسع حالات بناء المعتقلات الجديدة وطريقة توزيع وادارة السجون وطبيعة المحتشدات البشرية التي بلغت بمحصلتها حدودا غير معقولة، وكم من مرة جرى اطلاق سراح عدد من المتورطين في جرائم معروفة، بل ان الفساد في ادارة السجون العراقية جعل من الرشوات والصفقات طريقا لتهريب عدد من المجرمين المعروفين.
وهكذا خرجت الولايات المتحدة بقواتها العسكرية الثقيلة لكنها تركت وزر الملف الأثقل بيد عملائها الدمويين ، وهم الذين حرصوا على توسيع حملاتهم الاجرامية وتصفياتهم الجسدية لخصومهم بعد انسحاب القوات الامريكية، وتسلل المجرمون والجلادون المعروفون بدمويتهم وفسادهم الاخلاقي والسياسي الى الوحدات الخاصة بالتحقيق ونقلت عبرهم خبرات فيلق القدس الايراني ليعيث هؤلاء بما تبقى من العراق فسادا واجراما. 
لقد وصلت الاعتقالات والاحتجازات غير القانونية والجزافية حدودا غير معقولة، كما تكرر تأجيل المحاكمات المعلقة الى آجال بعيدة، و تم تغيب القضاء تماما أو تم توظيفه للتغطية على اختراقات فضيعة لحقوق الإنسان، وتصاعد أعداد المحكومين بالإعدام والتنفيذ الجماعي لحفلات القتل المنظم التي غالبا ما صاحبتها حالات تعذيب بشعة بحق المحكومين حتى اللحظة الاخيرة، وهي جرائم ضد حياة الضحايا من المعتقلين. لقد وصل الامر الى تخمين ارقام عن القتلى والوفيات والمختفين عن سجلات السجون بطريقة مريبة ولا يمكن حصرها بالضبط في ظل الفوضى المقصودة وضياع الوثائق.
وبينما تذهب منظمة حقوق الانسان "هيومان رايتس" في تقريرها لسنة 2008 في إحدى تقديراتها: يكون لدى الجيش الامريكي 25 ألف محتجز عراقي، ظلوا معتقلين بظروف لا إنسانية، من دون توجيه اتهامات اليهم، أو مثولهم امام المحاكم. وهنا تدان الولايات المتحدة كدولة ومؤسسات: انها حاولت خلط الاوراق والملفات بين من كانوا من الاسرى المقاومين او المعتقلين السياسيين الرافضين للغزو والاحتلال، والمحبوسين بالشبهات او من كانوا من رجال النظام الوطني السابق، سواء من الذين تم اعتقالهم او تم تسلمهم عبر مفاوضات ووساطات دولية او محلية، وعدتهم بضمان وسلامة حياتهم ، كوزير الدفاع السابق الفريق سلطان هاشم ونائب رئيس الوزراء طارق عزيز. لقد نكث الامريكيون بكل وعودهم وضربوا بما وعدوا الالتزام به عرض الحائط. حتى اصحاب الجنايات العادية دفعت ملفاتهم الى عديد المعتقلات ليزج بهم عشوائيا وسط هذا الحشر البشري المظلوم.
صنف قوات الغزو الامريكي، وإدارة الاحتلال المعتقلين العراقيين بعد عام 2003 ، وبناء على ظروف اعتقالهم إلى أربعة فئات هي:
1. الأشخاص الذين أسروا أو اعتقلوا من قبل قوات الجيش الأميركي أثناء العمليات العسكرية الكبرى من 20 مارس/آذار 2003 حتى 9 أبريل/نيسان 2003. 
2. فئة الذين خطفوا أو اعتقلوا بعد سقوط بغداد استنادا إلى لائحة اسمية وزعها الجيش الأمريكي، وعرفت باسم (اللائحة السوداء) وهم الاشخاص المطلوبون من رجال الحكم الوطني الـ 55 الذين سبق وأعلن عنهم من قبل القوات الغازية وعلى رأسهم الرئيس الراحل صدام حسين. 
3. فئة من اعتقلوا بعد ذلك التاريخ، بتهمة المقاومة، أو بتهمة التعاون مع المقاومين. 
4. فئة المعتقلين العاديين الذين احتجزوا لجرائم عادية مثل السرقة والتزوير وانتحال الشخصيات.
ذكر التقرير الثاني عشر لبعثة الأمم المتحدة لدى العراق بشأن أوضاع حقوق الإنسان في العراق: أن عدد المعتقلين في السجون الأميركية والعراقية كان يقارب 38 ألف شخص ، منهم حوالي 18 ألفا في معتقلات القوات المتعددة الجنسيات بقيادة ألولايات المتحدة.
وفي ذات الفترة من العام 2008 أعلنت منظمة العفو الدولية في تقرير لها ، كان بعنوان: "بين المجازر واليأس.. العراق بعد خمس سنوات": أن عدد المعتقلين يقارب ستين ألف شخص لدى القوة المتعددة الجنسيات والسلطات العراقية، منهم 35 ألفا في مراكز الاعتقال العراقية. وذكر التقرير، نقلا عن الجيش الأميركي أن 80% من المعتقلين كانوا محتجزين لدى القوات الأميركية لوحدها.
ووفقا للجنة الدولية للصليب الأحمر، التي سمح لها بزيارة عدد من السجون العراقية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2007 اعلنت عن وجود أكثر من ستين ألف معتقل لدى القوات المتعددة الجنسيات وقوات الأمن العراقية.
سجلت الكثير من التقارير والشهادات الموثقة ان المعتقلين والمحتجزين تعرضوا لمختلف أنواع التعذيب المحظورة عالميا، والممنوعة بموجب قانون حقوق الإنسان العالمي وبإجماع من المصادر الرسمية العراقية والأميركية وتقارير المنظمات الحقوقية المحلية والدولية. تصاعدت طرق التعذيب بمعدلات وطرق فضيعة وكانت في اغلبها انتقامية على يد لجان التحقيق المحلية التي نفذت تعليمات الحكومة العراقية او المتنفذين على اوكار وسجون وزارات الداخلية والدفاع والأمن وتوابعها في المراكز التحقيقية السرية، كانت افضعها ما تسرب من اعمال تعذيب خلال فترة حكومة ابراهيم الجعفري ووزير داخليته بيان جبر صولاغ الزبيدي، ومن تلاه بالتعاقب على تسييرمكاتب وزارة الداخلية والدفاع حتى استكمل السيطرة عليها جميعا وقادها شخصيا نوري المالكي بصفته رئيسا للوزراء والقائد العام للقوات المسلحة وهو المشرف المباشر على وزارتي الدفاع والداخلية والامن والمخابرات لسنوات طويلة.
وصل الامر ان الكثير من ضحايا الفترتين السابقتين، الاحتلال وما بعده، كانوا يقولون ان "أبو غريب يُعد الأرحم بين السجون رغم فضائحه الفظيعة ". وقد سجلت لاحقا حالات وفاة للكثيرين من المعتقلين والمغتالين والمخطوفين ومئات القتلى في ظروف غامضة، وقد جرى التخلص من جثامينهم على الارصفة والطرقات ومنهم من رميت جثثهم على جوانب وأبواب المؤسسات والطرق العامة والأنهار وحتى رمي البعض منهم في الاحياء قصد إشاعة الترهيب والتخويف والابتزاز المقصود .
ويعتقد المختصون واللجان الطبية في المستشفيات التي حمل الى ثلاجاتها المغدورون أن اغلب تلك الحالات قد تعرضت الى الوفاة والموت بسبب التعذيب الوحشي الممارس عليهم حتى الموت .
طبقا للتقارير الدولية والشهادات الموثقة فإن المعتقلين عاشوا ويعيشون أوضاعا إنسانية مأساوية في معتقلات تؤكد حالتها المزرية، تقارير منها تُنسب الى الحكومة العراقية نفسها؛ كونها محتشدات مكتظة بما يفوق طاقتها الاستيعابية من المعتقلين. يعيش المعتقلون فيها ظروفا لا انسانية، ويتعرض الكثير منهم الى التهم الكيدية وتقارير ووشايات المخبر السري، ومن المحكومين ومنهم تمت براءتهم من قبل محاكم جرى اعادة التحقيق معهم وابقائهم من دون محاكمة مرة اخرى كرهائن الى أجل غير مسمى حتى يتسنى تدبير تهما جاهزة ضدهم واغلبها تهمة " الارهاب". . وحسب تقرير منسوب الى دي ميستورا سجلت فضاعة الكثافة البشرية للمعتقلين "في أحد السجون، اين وجد حوالي 123 سجينًا في زنزانة واحدة مساحتها لا تتجاوز 50 مترًا مربعًا".
تمتد مظاهر القمع والتعذيب والابتزاز الى عوائلهم وأبناء أحيائهم وأصدقائهم وحتى محاميهم، ومن زارهم من الاقارب والمعارف وصلات الرحم العائلية، ووصل الانتقام حتى من المحامين والاعلاميين، أو ضد من إطلع على ظروف مأساتهم وكتب عنهم او رفض الشهادة ضدهم.
من صنوف التعذيب التي استخدمها الجنود الأميركيون وقوات التحالف وقوات الأمن العراقية بعض مما تم توثيقه وتسجيله :
● العزل والحرمان. 
● الضرب والتجويع. 
● الإهانة والسب، والتعرية والاعتداء الجنسي والاغتصاب. 
● التبول على السجناء. 
● الصعق بالصدمات الكهربائية على أجزاء حساسة من الجسد. 
● التعرض لدرجات الحرارة والبرودة القصوى لفترات طويلة. 
● التعليق من الأطراف.
ورغم كل ما سجل ونشر ووثق بالصورة والصوت، ظل المسؤولون العراقيون وممثلي وزارة العدل، خاصة ، ينفون تعرض المعتقلين للتعذيب، ويكررون القول: "إنها مجرد ادعاءات" بل وصلت الحالة بالمالكي ان اعتبر حكم الاعدام وسيلة إصلاحية لا بد منها ، أما وزير عدله فانه لم يتوان عن الافتخار بتصاعد أرقام المعدومين بالعراق.
نظرا لانعدام ظروف الشفافية لدى الامريكيين وتابعيهم اللاحقين في حكم العراق ظلت الاعداد الحقيقية من الاسرى والمعتقلين والسجناء مجهولة وغير موثقة، وزاد الموضوع تعقيدا ان المنظمات الدولية ولجان حقوق الانسان داخل العراق وخارجه كانت تجهل وضعية تلك السجون التي سلمتها القوات الامريكية، وقد اضيفت لها مراكز تحقيق واعتقال وسجون اخرى غير معروفة، تسلطت عليها المليشيات الطائفية التابعة للحكومة او الاحزاب المتشاركة في السلطة، فكان الرقم الذي صرح به النائب العراقي السابق محمد الدايني وما عرض على لجان البرلمان العراقي يقترب من وجود أكثر من 420 سجنًا سريًا انتشرت في عموم العراق، وحينها ناشد محمد الدايني هيئات الأمم المتحدة التحقيق في اوضاع تلك السجون , وأكد النائب محمد الدايني، حينها، في مؤتمر صحافي، عُقد في جنيف، أن بعض تلك السجون موجود تحت الأرض، وأن زنزانات أخرى جرى التمويه عليه وجعلها كقطاعات من معتقلات خاصة ظلت في وضع السرية، حتى وان كانت تحتل أجزاء من السجون الرسمية أومؤسسات الدولة كمطار المثنى ومقرات حزب الدعوة السرية منها والعلنية .
رغم ان اغلب من سيقوا الى محاكم حكومة المالكي لاحقا بتهمة "الارهاب" فان حكومة الولايات المتحدة لا زالت تلتزم الصمت المريب وسكتت عن مصير ضحاياها من الاسرى والمعتقلين الذين سلمتهم لحكومة المالكي بعد انسحابها المزعوم من العراق، وهم اليوم يواجهون تهما جديدة ومتجددة ومفصلة حسب طلبات الحاكم الطائفي، وهم يواجهون احكاما بالابادة من لدن حكومة غير شرعية، جاءت وهي تحمل في رأسها مسبقا مخططات الانتقام من خصومها السياسيين وشعارها الاجتثاث لكل من يخالفها الرأي وهي تسعى الى تجريم الآخرين وتتناسى جحيم جرائمها.



حسابات موسكو وواشنطن في ( واقع الصراع والتنافس ) ح ( ١ )
د. أبا الحكم
المقدمة :
هل أن السياسة الخارجية الأمريكية والروسية قائمة على واقع استنتاجي تنطلق من قاعدته التاريخية، لتكتسب وضوحاً ودقةً وقبولاً وتوافقاً لمنطق التجربة ونجاحها أم أنها تعتمد على منطق العقل التصوري دون أن تعي ممكنات الواقع المغاير وصرامته وحدود نجاحاته وإخفاقاته وردود فعله الحادة ؟!
وفي إطار هذا المعنى .. أين هي حدود العلاقة بين موسكو وواشنطن في ظل الصراع بالإنابة ؟، لقد كان الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفياتي في بعض الأماكن ليس مباشراً إنما من خلال قوى إقليمية تعبر عن سياسة أي من المعسكرين المتصارعين .. فأمريكا لآعب دولي دفعت أمامها عدداً من الدول التي تدور في فلكها ووزعت عليها الأدوار والمهمات والعمل بالإنابة، فيما دفع الاتحاد السوفياتي هو الآخر عدداً من الدول والقوى الإقليمية التي تتحالف معه في ذاك الصراع، فيما تركا أماكن سميت بالمناطق الرمادية ومناطق أخرى محفوفة بخطوط حمراء متفق عليها ولا أحد يستطيع الاقتراب منها أو اختراقها .
انتهى الصراع الثنائي بسقوط الإتحاد السوفياتي، فتفردت أمريكا بإدارة عملية الصراع مع الشعوب على أساس إستراتيجية جديدة أسمتها محاربة الإرهاب.. وخلال عقدين من الزمن فشلت أمريكا في إدارتها لصراع الفوضى الخلاقة، التي من المحتمل أن تنعكس على داخلها شراً وبيلاً وهي ماضية تتحكم فيها شركات النفط وتصنيع السلاح .. إلا أن المعادلة لم تعد هي ذاتها الآن، بعد وقوف روسيا والصين على أعتاب مرحلة جديدة، لأن إدارة العالم بقوة منفردة أمر مستحيل .
الآن .. نرى الصراع بالإنابة يظهر من جديد، ولكن بنسخة ليست هي نسخة الحرب الباردة .. إنما نسخة روسية تجمع بين تكريس النفوذ والدفاع عن المجالات الجيو- إستراتيجية، وأمريكياً هي نسخة تجمع بين تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد وضمان المصالح الحيوية الأمريكية والأمن الإسرائيلي على حدٍ سواء .. فهل أن خطوط اللعبة الإستراتيجية العامة متفق عليها سلفاً أم أنها متروكة لواقع الصراع على الأرض ولنتائج التحولات التي تجري فيه، لأن كليهما، لاعبان دوليان مخضرمان يتقنان قواعد اللعبة الدولية ولا يبنيان مواقفهما على ردود الأفعال، التي يمليها واقع الصراع والتنافس، والتي تخضع هي الأخرى لحسابات تحددها سياسات إدارة الصراعات السياسية والأمنية وحركة القوى.؟
وكما نعرفه، هنالك الثابت والمتحرك في الرؤية الإستراتيجية ، وإن ردود الأفعال يفرزها واقع الصراع في بعض أوجهه تبدو صيغة دفاعية محضة عن كيان الدولة ومصالحها الحيوية والأمنية .
إن أفول الحرب الباردة أسقط أولوية، في عرف الإدارة الأمريكية، هي التهديد السوفياتي، فحلت محله أولوية أخرى هي التطلع صوب ازدهار الاقتصاد الأمريكي، فتم تخفيض أولوية الأمن – هذا ما يقوله المنظرون الأكاديميون الأمريكيون – ولكن هل تستطيع أمريكا أن تتعايش مع العالم من دون حروب خارجية وعدو خارجي.. الإجابة، كلا لا تستطيع.. إذ سرعان ما أعلنت ما يسمى بالقرن الأمريكي بدون منازع ؟
لقد بات الصراع والتنافس بين موسكو وواشنطن يأخذ منحيين، أولهما : عسكري- استخباري- أمني على الأرض، وثانيهما : سياسي- دبلوماسي وراء الكواليس، لقد رأت إدارتا نيكسون وريغان آنذاك " أن الإتحاد السوفياتي يظل يشكل التهديد الرئيسي الذي يجب التعاطي معه على الرغم من كونه تهديداً يمكن إدارته من خلال إستراتيجية متطورة تجمع الإغراءات بالتعاون إلى جانب القوة المضادة والاحتواء العسكري"..وكما نرى، أن هذه الإستراتيجية ما تزال قائمة حيال روسيا الاتحادية مع متغير إفراغ أو تقييد المجال الحيوي الروسي، ليس عن طريق سياسة الاحتواء، إنما عن طريق سياسة إشعال الحرائق..والمغزى في هذه السياسة الإستراتيجية منع نهوض روسيا من جديد، لأن القوى العظمى والكبرى إذا ما انكفأت فأنها تنهض وتعمل على تصحيح التوازن الدولي عن طريق بناء ( القدرات ) من ناحية وبناء ( التحالفات ) من ناحية ثانية، وهذا ما يجري فعلاً على مسرح العلاقات الدولية منذ انهيار الإتحاد السوفياتي نهاية عام 1989 ولحد الآن .
إن تصحيح الميزان الذي اختل لصالح واشنطن، وتفردها في دعاوى ( القرن الأمريكي ) واعتماد إستراتيجية محاربة "الإرهاب" ذات الأمد الكوني البعيد، يُعَدُ مسألة متوقعة في عرف معايير القوة وبروز القوى، وخاصة المخاطر التي ارتبطت بمبدأين تم ربطهما معاً، لم يشهد لهما تاريخ العلاقات الدولية مثيلاً، وهما ( مبدأ المصالح الحيوية ) و ( مبدأ الأمن القومي ) ، الأمر الذي خلق من هذين المبدأين فلسفة غريبة في السياسة الخارجية الأمريكية، هي حزمة التحديات التي تواجهها أمريكا، كما هي أعلنتها، وفي مقدمتها مخاطر العدوان الخارجي المباشر والعمل على إجهاضه بضربة إستباقية .. الفلسفة السياسية هذه لا تستقيم مع النظام الدولي القائم على مجموعة الأحكام المؤسسة للتنظيم الدولي، كما لا تتماشى مع القانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
حاولت أمريكا، خلال العقدين الماضيين، ملء فراغ القوة في العلاقات الدولية وفشلت بالرغم من نجاحها في ضرب أفغانستان واحتلاله وضرب العراق واحتلاله، إلا أن نتائج حروبها الخارجية قد أرغمتها على تغيير نمط سياستها الإستراتيجية فعمدت على تسخير أدوات خارجية، غير مكلفة بشريا وماديا، مستغلة أوضاع الوطن العربي البائسة بفعل تسلط النظم السياسية العربية القمعية، الأمر الذي أشعل المنطقة العربية، فسقطت نظم سياسية عربية تسلطية، فيما كان لواشنطن موقعها في ركوب موجة الحراك الشعبي العارم، فَحَرَفتْ اتجاهاتها صوب الفوضى في كل ساحة عربية منذ اندلاعها حتى الوقت الحاضر. وهذا لا يعني أن أمريكا لم تستخدم نظريتها في "الفوضى الخلاقة" لتدمير الشعوب التي لا تنصاع لمنهجها الكوني.
إن اختيار منطقة "الشرق الأوسط" لم تكن عبثاً في المخطط الإستراتيجي الكوني الأمريكي- الصهيوني، فرسم خرائط المنطقة جيوبوليتيكياً ( أرض وسكان ) يُعَدُ هدفاً مركزياً في هذا المخطط، لأن عدم تحققه وفشله سيمنع أمريكا من التمدد منه ومن خلاله صوب أوراسيا وعمقها حيث يقبع التنين الصيني والدب الروسي .. المقاومة الوطنية العراقية أفشلت الوجود العسكري الأمريكي المباشر على الأرض، بعد أن أثخنته بالجراح، ولكن أمريكا عمدت على ترك واقع الحال لوكيلها الإستراتيجي إيران لتستكمل تنفيذ المشروع، حتى لو اقتضى الأمر خلق مشاحنات وصراعات، ولكن التوكيل والعمل بالإنابة يظل هو أساس التعامل الإستراتيجي بينهما، فأمريكا تستهدف من أجل مشروعها إسقاط النظم السياسية بأدوات محلية هي في طبيعتها مكونات مذهبية وعرقية وعشائرية وقبلية لتفجير هياكل النظم السياسية، لكي تنسحب، من ثم، باتجاه المجالات الحيوية للدول العظمى والكبرى مثل روسيا والصين وباكستان النووية والهند والنمور الآسيوية، طالما أن شعوب هذه الدول تتشكل هي الأخرى من مذهبيات وعرقيات، يمكن التلاعب بها وإثارتها بمختلف الوسائل الممكنة والمتاحة واتخاذها تبريرا للتدخل "الإنساني" على أساس حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها .. ولكن تظل روسيا ليست كاليمن ولا كليبيا ولا كتونس ولا كمصر وسوريا والعراق،إلخ ، لأنها قادرة على تنفيذ مبدأ المعاملة بالمثل ( Reciprocity) حتى في العمق الأمريكي.. وأمريكا تدرك ذلك جيداً.. إذن ، لماذا المحور الروسي الإيراني السوري ؟! وهذا ما سنعالجه في الحلقة القادمة .
إن انهيار التوازن الدولي أدى بدوره إلى انهيار التوازن الإقليمي في منطقة معينة ومحددة هي "الشرق الأوسط"، الذي يعتبر خطوة إستراتيجية مركزية للقفز صوب خارطة جيو- بوليتيكية أكثر اتساعاً، أدخلها المخططون الإستراتيجيون في خانة مصادر التهديدات، التي تعتقد الولايات المتحدة أنها تستوجب الرد.. وهي في حقيقتها ليست تهديدات بالمعنى الذي يفسره القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ومن هذه التهديدات ( مجرد عدم استجابة لدى حكومة معينة للقبول بطلب الحكومة الأمريكية في مجال معين، يُعَدُ تهديداً لمصالح أمريكا في هذا المجال ، كما أن التهديدات غير التقليدية والتي يسمونها تحديات قد ترقى، في عرف المؤسسة السياسية- العسكرية الأمريكية إلى مرتبة تعرض المصالح الأمريكية إلى الخطر ) !!
تقول " كوندا ليسا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق في مقال لها ( إن التدخل الأمريكي في الأزمات الإنسانية يجب أن يكون أمراً نادراً.. فالسياسة الخارجية تنطلق من المصلحة القومية وليس من مصالح مجتمع دولي له أوهامه ) . أما هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأسبق فيرى ( حيثما تتعرض حياة الأمريكيين للخطر فثمة إدراك بوجود مصالح حيوية أمريكية ) .!!
وكما هو معروف فأن التهديدات ومن أي نوع لها مكونين أساسيين ، الأول: وهو النيات، والثاني: وهو القدرات .. وهذا يعني أنه في حال توجيه تهديد تتلقاه دولة ما، يتعين على الدولة صاحبة التهديد أن تمتلك هذين المكونين من اجل التنفيذ .. وهذان المكونان تحكمهما معادلة الجمع بين الغايات والوسائل، كما هو الجمع بين الهدف والقوة في العمل الإستراتيجي .. بيد أن التهديدات لا تعد تهديدات إلا إذا كانت وشيكة ويحددها دستور الدولة لا وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" ، ولا مجلس الأمن القومي، ولا مؤسسات الاستخبارات قادرة على تعريف التهديد .. فالدستور الأمريكي لم يرد فيه ما يشير إلى ما تسميه الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض بـ ( الضربة الإستباقية ) .
ويرى المنظرون الأمريكيون إن الإدارة الأمريكية، قد بالغت في رد فعلها إزاء أحداث الحادي عشر من سبتمبر- أيلول 2001، وأن ( فقدان 3000 في هذه الأحداث والإرتعاب من هذا الرقم لا يتماشى مع موت "15000" ألف طفل أمريكي في كل سنة بأمراض يمكن الوقاية منها وذلك لافتقارهم للتلقيح ) ، كما جعل شعوب العالم تتحمل ومنها على وجه التحديد شعب العراق ثمنه الباهظ، فضلاً عن ما دفعه المجتمع الأمريكي من ثمن نتيجة مخطط أرادته الصهيونية العالمية أن تنفذه الإدارة الأمريكية على حساب المجتمع الأمريكي وعلى حساب الشعب العراقي.. هذا ما يقوله الباحثون الأمريكيون وفيه دس رخيص وكأن الغزو الأمريكي هو مجرد رد فعل مبالغ فيه من دولة عظمى. !
أن ما فقدته أمريكا في 11/9 لا يعادل الملايين من العراقيين الذين قتلتهم القوات الأمريكية المحتلة للعراق وأعاقتهم وشوهت أجيالهم وشردتهم، فضلاً عن ما قتلتهم حكومتها العميلة ومليشياتها الفارسية في العراق كل يوم وحتى هذه الساعة.
فلماذا يسكت المجتمع الأمريكي والمجتمع الدولي على سلطة تكذب وترتكب مجازر ضد الإنسانية باسم الديمقراطية وتحت ذرائع كاذبة ؟!
يتبـــــــــــــــــــــــع ...




الاثنين، يونيو 24، 2013


قـــراءة فــــي الإستـــراتيجيـــة الإيــرانيـــة
نزار السامرائي

إيران لاعب رئيس في المنطقة، ويمتلك صواريخ عابرة للقارات أبعد مدى من أية صواريخ لدى الولايات المتحدة أو لدى روسيا، كما أن لديها سلاحا نوويا أكثر مما تمتلك كل الدول النووية في العالم، صواريخ إيران وقنابلها النووية تتمثل بتلك الولاية التي تفرضها على أتباع نظرية ولاية الفقيه، لأن هؤلاء الأتباع يتحركون من دون وعي حتى داخل غرف نومهم استنادا إلى أوامر ونواهي علي خامنئي مرشد الثورة الإسلامية، من دون نقاش أو شك بأن مخالفتها ترتب آثارا دنوية وأخرى أخروية، دنويا تبدأ بتحريم زوجته عليه في حال لم يصدق في ولائه المطلق لتلك البدعة، وما يلحق بذلك التحريم من تداعيات على نسبة الأولاد إلى بيت الزوجية، فضلا عن تحريم الرزق إذا لم يكن قد حصل على بركة ممثل الولي الفقيه في أية بقعة مهما كانت قصية أو مهملة على الأرض، وغير ذلك من المعاملات التي ينشؤها تابع الولي الفقيه.
أما أخرويا فيكفي أن المكلف لن يدخل الجنة حتى إذا قام بكل متطلبات الدخول إليها ومهما أخلص في عباداته لله تعالى أو ساعد المحتاجين، أو اقتفى آثار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والأئمة الأطهار، ما لم يحصل على رضا الولي الفقيه، على حين أن مرتكب الكبيرة إذا ما أخلص في طاعة الولي الفقيه فإنه قادر على سحبه من جهنم وإرساله إلى الجنة بفرمان مقدس.
فأي من الدول العظمى كالولايات المتحدة أو روسيا أو الصين، تستطيع أن تحرك كل هذه الكتل البشرية عبر ريمونت الفتوى الدينية كما تفعل إيران ؟ 
إن هذه المجاميع البشرية، لاسيما من الشباب الجاهزين لعمل كل ما يؤمرون به، والمنقادين هذا الانقياد الأعمى لمركز التوجيه في طهران، ربما هم أكثر تأثيرا وفاعلية من الأسلحة النووية والصواريخ والقواعد العسكرية فيما وراء البحار التي تمتلكها الولايات المتحدة وتطوق بها الكرة الأرضية، وحاملات الطائرات والبوارج الحربية التي تجوب أعالي البحار، ربما لأن هؤلاء لا يخضعون للتوازن الإستراتيجي بكميات الأسلحة ونوعياتها ولا أحد يعرف متى تصدر لهم الأوامر بتنفيذ الخطط الموضوعة استنادا إلى حسابات خفية، ويتحركون من دون أن تراهم أقوى الرادارات في العالم، فيغيرون من التوازنات الإقليمية والإستراتيجية عبر القوة الناعمة في مرحلة من مراحل التحرك، ثم ينتقلون بقوة القرار والفتوى إلى القوة الخشنة حينما تقتضي مصلحة إيران أولا وأخيرا، بالمقابل فإن ما تمتلكه الدول الكبرى من قدرات تدميرية قد تخضع لاتفاقيات دولية ثنائية أو جماعية ملزمة، أو تخضع لسيطرة قوة عاقلة هي التي تحركها على وفق حسابات دقيقة، أو ربما لأن الدول العظمى كلما توصلت إلى طراز جديد من الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل، كلما توصلت الدول المنافسة إلى سلاح مكافئ أو مضاد له، يحد من تأثيره أو قدرته على الوصول إلى أهدفه، أو سلاح متطور مماثل يخلق الروادع والكوابح المانعة من خوض مغامرة استخدامه مهما اشتدت الأزمات الدولية.
قصور الرؤية المستقبلية في مراكز الدراسات العالمية
إن مراكز الدراسات الإستراتيجية الأكثر دقة في العالم لاسيما مراكز الدراسات الأمريكية، لم تتمكن من التنبؤ بحصول الزلزال الهائل الذي انطلق من إيران في شباط 1979 على الرغم من انتشار عملاء المخابرات المركزية في كل مرافق الدولة الإيرانية في عهد الشاه، بل يقال إن رجال المخابرات المركزية هم الذين قيدوا ردود فعل الشاه ضد الثورة التي كانت تتعاظم منذ عام 1978، لأن حسابات الإدارة الأمريكية وصلت إلى نتيجة مفادها أن الشاه أصبح ورقة مستهلكة تماما وأن رميه في سلة المهملات هو الحل الأمثل لمثل حال عملاء أمريكا، التي لم تلتزم في يوم من الأيام بالوقوف إلى جانب عملائها أو أصدقائها، خاصة وأن واشنطن كانت تعد العدة لمشروع تطويق الاتحاد السوفيتي السابق بحزام الفتن الدينية، فكان مجيء الخميني في وقت نموذجي لخطوات أخرى كان من بينها وصول بابا إلى حاضرة الفاتيكان من بولندا التي كانت ما تزال حتى ذلك الوقت جزء من منظومة الدول الشيوعية المنضوية تحت لواء حلف وارشو، فظنت أن وصول الخميني إلى الحكم سيثير تململ شعوب الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي، ولكنها في واقع الحال لم تحقق هذا الهدف وربما وظفت موسكو اتجاهات النظام الجديد في طهران لصالحها، وخاصة عندما أصدر آية الله الخميني أوامره لما أطلق عليهم بالطلبة السائرين على خط الإمام، باحتلال مبنى السفارة الأمريكية في طهران تحت عنوان احتلال وكر الجاسوسية، وتم احتجاز الدبلوماسيين الأمريكان داخلها مما شكل أول نكسة للمشروع الأمريكي، ووقف الرئيس الأمريكي يوم ذاك جيمي كارتر مشلول الإرادة والتفكير، ولم يستطع رؤية الحل الذي يبعث برسالة إلى حكام طهران بأن اللعب بالنار مع واشنطن محفوف بمخاطر جسيمة، ولكنه لم يفعل وعاش حالة من التردد أغرت المجموعة الجديدة الحاكمة في إيران بأنها لن تخسر كثيرا في أية مواجهة محتملة مع الولايات المتحدة التي ستخسر هيبتها بمجرد تراجعها خطوة واحدة إلى الوراء، أو حتى في حال عدم تقدمها إلى الأمام كما عرفها العالم في عهد الرئيس جون كندي عندما أطبق على كوبا بحصار بحري خانق أوشك أن يجر العالم إلى حافة حرب عالمية ثالثة لو لم يتراجع السوفييت عن خطط إقامة القواعد الصاروخية على مقربة من الشواطئ الأمريكية، ولكن كندي وهو يجلس على كرسيه الهزاز، لم يكترث لعمليات التقرب التي نفذها الأسطول السوفيتي في محاولته اختراق ذلك الحصار المحكم، لأن كندي كان مصمما على عدم السماح لسفينة سوفيتية واحدة بالمرور مهما كلف الأمر.
إيران وسياسة الغاية تبرر الوسيلة
إن أخطر ما في ظاهرة ولاية الفقيه، أنها تمتلك رصيدا كبيرا من القوة البشرية التي لا تخضع لأي توازنات عسكرية في العالم، لأنها ببساطة جيش من ملايين الشباب رهن الإشارة وقوة مدربه وجاهزة للتدخل في أي وقت يطلب منها ذلك في أي مكان في العالم، واستطاعت الظاهرة الخمينية توظيف الشعارات التي تلاقي قبولا محسوما لدى الشارع العربي والإسلامي، من قبيل شعار تحرير فلسطين، على الرغم من أن إيران لم تقدم شيئا من الناحية العملية لتحرير فلسطين، بل أنها ربطت بين حربها العدوانية على العراق وتحرير فلسطين حينما رفعت شعار طريق القدس يمر ببغداد، ثم أوجدت طهران لنفسها أذرعا فاعلة في كل من العراق واليمن ولبنان والمنطقة الشرقية من الملكة العربية السعودية والبحرين، ووضعت الخطط لتوسيع دوائر نفوذها في آسيا وأفريقيا، وتحالفت مع دول ذات نظم سياسية يسارية أو علمانية استنادا إلى قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، فأوجدت إيران لنفسها قواعد سياسية ودبلوماسية في سوريا وفنزويلا، ولم تجد تقاطعا بين توجهاتها الدينية المعلنة والتوجهات المضادة في كل من دمشق الأموية التاريخ والعلوية الحاضر، وكراكاس المسيحية الديانة الكاثوليكية المذهب الإسبانية اللغة، وكانت تستخدم مع كل بيئة اللغة المناسبة التي تصلح لفتح الأبواب الموصدة أمامها، ربما تسجل تلك النجاحات لصالح المخطط الإيراني، ولكن إيران ظلت تقاتل برجال غير رجالها، ولكن هؤلاء الذين يقاتلون نيابة عن طهران يراهم المراقب سعداء جدا بتلك التبعية والولاء الذي منحوه للولي الفقيه، كما هو حال حزب الله اللبناني وزعيمه حسن نصر الله الذي يجاهر مفاخرا بأنه النسخة اللبنانية من دولة ولاية الفقيه، واستغل نتائج حرب تموز عام 2006، لكسب مزيد من التعاطف العربي والإسلامي مع إيران، معتبرا أن ما تحقق هو إنجاز لإيران بالدرجة الأولى وليس لأي طرف آخر، واستطاع حزب الله وبلغة عربية أن يطرق نيابة عن إيران أبوابا ظلت مغلقة بوجه الدور الإيراني لسنين طويلة.
ولكن علينا أن نؤشر النصف الآخر من الحقيقة، وهو أن ما تحققه إيران من إنجازات لم يكن بنقاء عقيدتها أو صواب سياستها أو عبقرية مخططيها، بقدر ما كان نتاجا لخطل السياسة العربية وأخطائها وإخفاقها في انتهاج إستراتيجية عربية واحدة تضع المصالح العربية العليا فوق أي هدف آخر، بالأصل لم تكن هناك إستراتيجية عربية واضحة المعالم يمكن يتم التعامل الدولي معها، وإذا كانت هناك إستراتيجيات لكل بلد عربي على حدة، فإنها ستبدو متصادمة مع بعضها وذلك بسبب تصادم المصالح بين الدول العربية وتفشي حالة الشك والريبة بين دول الجامعة العربية وسياسة المحاور التي قادت الوطن العربي من نكبة إلى نكبة أكبر، في حين أن إيران تمتلك رؤيا واضحة لما تريد وتمتلك صوتا واحدا يعبر عنها، والعالم يفضل التعامل مع سياسة واحدة منسجمة لبلد واحد بدلا من التعامل مع 22 موقفا لاثنتين وعشرين دولة، فأين يكمن الخلل في أسباب تقدم المشروع الإيراني وتخلف المشروع العربي؟ ولنا في الانجازات التي حققتها إيران في سوريا هذه الأيام وسط ذهول عربي وإسلامي عاجز عن إيجاد الرد المناسب، على الرغم من أن حزب الله لم يخف البعد الطائفي للمعركة في سوريا.
أي الخطرين أولى بالملاحقة ؟
هناك خلل بنيوي في طبيعة اتخاذ القرار العربي، فمعظم الدول العربية إن لم تكن كلها، لا تجرؤ على خطوة قد تسبب إزعاجا للولايات المتحدة، وهذا الأمر يصب في صالح القرار الإيراني سياسيا وإستراتيجيا لأنه يعطيها فضيلة الاستقلال بقرارها السياسي عن مراكز الاستقطاب العالمية، والأمثلة حاضرة على هذا، ففي اليمن وحينما كان الجيش اليمني على وشك الإطباق على مدينة صعدة معقل الحوثيين المرتبطين بالمشروع الإيراني، أبدت الولايات المتحدة انزعاجا شديدا من تحول الدولة اليمنية عن الحرب على تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، إلى معارك ثانوية، وجندت واشنطن في تغيير اتجاهات الزعامة اليمنية بمنظمات حقوق الإنسان التي ضاعفت من تقاريرها التي تتحدث عن حصول انتهاكات في مناطق الحوثيين، وبذلك جندت الولايات المتحدة أدواتها السياسية الضاغطة على معركة تخص الأمن الأمريكي، حتى بفرض أنها ستصب في صالح التمدد الإيراني على جنوب المملكة العربية السعودية لتطويقها من الشرق والجنوب.
ما يحصل اليوم في سوريا هو التعبير الكامل عن الشلل الذي أصاب العالم الإسلامي تجاه تغوْل المشروع الإيراني على المنطقة وتحقيقه نقاط ارتكاز للوثوب إلى مناطق أخرى، كل هذا يحصل والإدارة الأمريكية غير جادة في إعطاء رأي صريح بشأن تدخل إيران وحزب الله في سوريا، وعلى الرغم من أن هناك أدلة قاطعة على استخدام السلاح الكيمياوي من جانب قوات الرئيس بشار الأسد وهو ما أكدته فرنسا وبريطانيا والأمم المتحدة، فإن واشنطن بقيت أسيرة موقف كانت قد أعلنه البيت الأبيض من أن استخدام السلاح الكيمياوي سيغير قواعد اللعبة، ولهذا ظلت تبحث عن ذرائع التخفيف من دقة معلومات لندن وباريس، وكأنها ما تزال حريصة على معرفة جنس الملائكة قبل أن تقدم على خطوة لن تحصل منها أبدا.
فمن أين هبطت كل هذه الحكمة على الأمريكيين؟ ولماذا لم يتحل الرئيس جورج بوش الابن بجزء يسير منها حينما قرر غزو العراق واحتلاله وإسقاط نظامه الوطني؟ يذهب بعض مراقبي الإستراتيجيات الدولية، إلى أن الرئيس الأمريكي السابق كان قد اقتفى بغزو العراق خطوات زعماء الاتحاد السوفيتي السابق الذين تدخلوا عسكريا في أفغانستان وورطوه في مستنقع لم يتمكن من الخروج منه بقليل من ماء الوجه أو الهيبة المفترضة، وهو ما فعله بوش تماما في العراق وأخرج بلاده مثخنة بجروح عسكرية ونفسية ومادية غير قابلة للإلتئام ولو لزمن طويل، وكما أن ميخائيل غورباتشوف الزعيم السوفيتي الذي وقع على شهادة وفاة الاتحاد السوفيتي وساهم بتربع الولايات المتحدة على كرسي مركز الاستقطاب الواحد في العالم، فإن هؤلاء المراقبين لا يستبعدون أن يكرر الرئيس باراك حسين أوباما دور غورباتشوف ولكن مع أمريكا، أمريكا لم تعرف في تاريخها الطويل رئيسا أحمقا مثل جورج بوش، ولم تعرف رئيسا مترددا مثل أوباما، تارة بالحكمة وتارة بالحرص على عدم توريط بلاده في مغامرات جديدة، ومع كل لحظة تأمل يمضيها الرئيس أوباما في مكتبه البيضاوي، تكون جحافل إيران قد حققت قفزات في أكثر من بقعة لتعزز من ثقلها الإستراتيجي إقليميا ودوليا، ثم لتفرض وجهات نظرها في القضايا الإقليمية بعد ربطها بمشروعها النووي.
غياب الوعي الجماعي العربي وتعدد الإستراتيجيات المحلية وعدم تأشير المصالح العليا للأمة العربية، بل عدم الارتقاء إلى مستوى الحد الأدنى من العمل العربي المشترك على وفق ما رسمه ميثاق جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، وعدم تفعيل اتفاقيات الوحدة الاقتصادية العربية، كل ذلك جعل البلدان العربية تعيش هاجس الخوف من الشقيق ووضع الخطط الاحترازية لمواجهته بل المشاركة في شن الحرب عليه كما حصل في ضرب العراق وقطع اليد التي كانت تحمي السياج العربي من موجات تسونامي الإيرانية، على نحو يتقدم على الشعور بالخطر القادم من إيران أو إسرائيل أو سايكس بيكو الجديدة.
إيران تحقق إنجازات داخل البيت العربي ولا تتردد عن التدخل في أي أرض عربية، والموقف العربي الخجول يشجعها على المضي بسرعة أكبر في مشروعها الإقليمي، هذا كله يحصل قبل امتلاك إيران للسلاح النووي، ومع كل الحصار الاقتصادي المفروض عليها، ترى ماذا سيحصل إذا امتلكت الأسلحة النووية وأطلقت معاملاتها التجارية المفتوحة؟ ثم أين تذهب الأموال العربية الطائلة إذا لم تخصص لمواجهة الأخطار التي تسعى لقضم الوطن العربي بالتدريج؟ وأين الحكمة العربية التي تقول مثقال وقاية خير من قنطار علاج؟

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار