الجمعة، مايو 09، 2008

العراق تحول إلى ثقب أسود للاقتصاد الأمريكي

د. ثائر دوري

كان الأمريكيون يأملون أن يمول العراق احتلال ذاته عبر عوائد البترول الضخمة التي سيضعون يدهم عليها، كما كانوا يأملون أن يمول هذا البلد سيطرتهم على بلدان العالم الأخرى عبر استخدام بتروله كسلاح استراتيجي ضد القوى الإقليمية و الدولية الصاعدة. لكن اندلاع المقاومة العراقية المسلحة أسقط هذه الأوهام وحوّل العراق إلى ثقب أسود ضخم يمتص قوة أمريكا العسكرية والاقتصادية و السياسية لنصل إلى الأزمة الاقتصادية الراهنة (بالطبع دون أن ننسى أزمة السيطرة الأمريكية التي باتت واضحة في كل بقعة من بقاع العالم).
تتخبط الإدارة الأمريكية اليوم في أزمة اقتصادية ملمحها الأساسي انهيار سعر صرف الدولار الأمريكي وتداعياته على الاقتصاد العالمي المرتبط بأمريكا مما يدفع القوى الأخرى لفك ارتباطها بالاقتصاد الأمريكي والاستغناء عن الدولار بشكل سريع وهذا سيؤدي إلى مزيد من الانهيار الاقتصادي في أمريكا لأن الولايات المتحدة تعتمد في إسناد اقتصادها على أموال الآخرين التي تشتري سندات خزينتها، وعلى طباعة دولار سنده الأساسي قوة أمريكا العسكرية التي تعومه. ومن هنا يمكن فهم الكارثة التي أوقعتها المقاومة العراقية بالوضع الأمريكي فالمقاومة ضربت الإمبراطورية في نقطة قوتها الرئيسية، أي القوة العسكرية التي بدونها لن تقوم قائمة للدولار.

عودة إلى بديهيات الاستعمار و حرب العصابات
الاستعمار، بعد إسقاط كل الشعارات الإيديولوجية و شعارات حقوق الإنسان وتحضير العالم وعبء الرجل الأبيض، هو عملية نهب اقتصادي بحت. عملية استثمار تجاري يقوم على المبدأ الرأسمالي الأساسي البسيط: توظيف قدر معين من الرأسمال مقابل الحصول على أرباح مجزية. ففي الحالة الاستعمارية توظف دولة أو شركة (مع ملاحظة أنه يعد هناك فرق بين الدولة الرأسمالية المعاصرة و بين الشركات فقد زالت الحدود بين الاثنتين لذلك ببساطة ينتقل ديك تشيني من إدارة هاليبرتون إلى إدارة دولة الولايات المتحدة، وببساطة أيضاً يمنح بحكم منصبه الجديد عقود إعمار العراق إلى شركته السابقة، كما أن الشركات أنشأت جيوشها الخاصة.
وبهذا عادت الرأسمالية إلى نقة انطلاقتها الأولى، حيث الإندماج بين الشركة و الدولة كحال شركة الهند الشرقية و الحكومة البريطانية) توظف الدولة الاستعمارية أموالها في الغزو لذلك يجب أن تسترد استثماراتها سريعاً مضافاً لها أكبر أرباح ممكنة، وبأسرع وقت ممكن، لذلك يجب تخفيض نفقات الغزو إلى الحدود الدنيا. وفي سبيل تخفيض المبلغ المستثمر في الغزو رأى رامسفيلد، أثناء التحضير لغزو العراق، الاكتفاء بستين ألف جندي، في حين أن العسكريين، الأكثر خبرة منه، رأوا أن الرقم المطلوب هو ربع مليون جندي، وأخيرا استقر الرقم على رقم قريب من مائة و خمسين ألف جندي،و لاحظت خطة الغزو أن يتم سحب الجنود بسرعة لإنقاص تكاليف الغزو، فكان من المقرر أن يبقى في العراق بحلول آذار 2004 فقط بحدود 60 ألف جندي. لكن اندلاع المقاومة العراقية أربك خطط الغزو وبدل أن يخفض الغزاة عدد جنودهم رأيناهم يضطرون لرفعها في العام الرابع للغزو. وهنا اندلع النقاش حول تكاليف الحرب فبينما كانت الإدارة الأمريكية تأمل أن يمول العراق غزوه، كما قال بول وولفويتز نائب وزير الدفاع الامريكي. أو أن النفقات ستكون بالحدود الدنيا إذ صرح دونالد رامسفيلد ان التكاليف لن تزيد عن خمسين مليار دولار. وذلك رداً على لاري ليندزي المستشار الاقتصادي للرئيس بوش الذي قدر أن تكاليف حرب العراق ستبلغ حوالي 200 مليار دولار كحد أقصى في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال قبل بداية الحرب، فسارع البيت الأبيض إلى نفي ذلك بشدة باعتباره رقما مبالغا به، وأقال لاري.

كانوا يأملون أن يمول العراق نفقات احتلاله كما حدث في سوابق تاريخية كثيرة كحال بريطانيا والهند. لكن ما حدث أن المقاومة العراقية المسلحة حولت الحرب إلى كابوس مرعب للإدارة الأمريكية فالنزف المالي يوشك على جعل الوحش الأمريكي يخر صريعاً إذ قدر الخبير الإقتصادي ستيغلينز أن التكلفة النهائية للحرب ستصل إلى ثلاثة تريليون دولار، فالتكلفة المباشرة لحرب العراق هذه الأيام ارتفعت إلى 12 مليار شهرياً هذا عدا النفقات الصحية للجرحى، وما زال معدل الإنفاق في تصاعد مستمر.

للمقارنة بريطانيا و الهند
وللمقارنة نشير إلى أن الهند التي كانت تعد في عام 1913 ثلاثمائة مليون هندي كان يمسكها 76 ألف جندي انكليزي، فإذا سحبنا الأرقام على العراق الذي يعد عدداً من السكان يقرب من ثلاثين مليون فيجب أن يديره الأمريكان بحوالي ثمانية آلاف جندي ليكون مجزياً اقتصادياً، كما الهند لبريطانيا.
ضم جيش شركة الهند الشرقية عام 1857 310 آلاف سباهي أي 90% من القوات. وكانت وظيفة هذا الجيش، الذي غالبيته من السكان المحليين والممول من خزينة الهند، مزدوجة فمن جهة إدامة السيطرة البريطانية على الهند، كما ساهم في التوسع البريطاني في بورما 1824 - 1885و فارس 1856/1857 وفي الصين 1824- 1839، 1860-1878 و في أفغانستان عام 1878 – 1880 و في مصر 1882- 1885 و افريقيا الشرقية والوسطى 1898/ 1897و1902-1904. و بذلك فإن الهند مولت احتلالها و احتلال بريطانيا لأجزاء أخرى من العالم. وهذا ما كان يأمل الأمريكان تحقيقه في العراق.
لم يكلف احتلال الهند انكلترا فلساً واحداً لأنه كان على الأولى أن تتحمل نفقاته، هذا ما ذكرته شركة الهند بفخر في مذكرة وجهتها عام 1858 إلى البرلمان البريطاني. (الكتاب الأسود للاستعمار- دار قدمس) فتكلفة القوات الملكية و الأفواج البريطانية، أيضا، وقعت على عاتق الهنود. كما أن الهند تحملت جزءاً كبيراً من تكلفة القوات الهندية التي استخدمت في المغامرات الاستعمارية الإنكليزية في أماكن أخرى من آسيا وأفريقيا، كما ذكرنا.
كما أدار ملك بلجيكا الكونغو، الذي تبلغ مساحته أضعاف مساحة بلجيكا، بــ 254 أوربياً منهم 46 بلجيكياً، و 1067 أوربياً عام 1886، و 1895 عام 1900، و 2511 عام 1905م، و في الكونغو الفرنسي لم يكن الجهاز الإداري يتجاوز إلا 36 أوربياً زيادة على 118 رامياً و 3500 عاملا أوربيا لأن الاعتماد الأساسي في الغزو على سياسة فرق تسد، و على تجنيد أقليات من السكان مختلفة اثنيا أو دينيا ضد الأكثرية، وبهذا تم تخفيض نفقات الاحتلال إلى الصفر أو قريباً منه وتم تعظيم الإيراد.
هنا يكمن مأزق الاحتلال الأمريكي للعراق فهو ما زال مضطراً للاحتفاظ بربع مليون جندي و مرتزق وهذا يجعل المشروع الاستعماري، الذي هو مشروع استثمار اقتصادي بالدرجة الأولى، كما ذكرنا ، مشروعاً خاسراً.
بعد هذا نعود لنذكر أنه ليس من مهمات مقاتلي حروب العصابات أن يكسبوا الحرب بالضربة القاضية بل بمراكمة النقاط لصالحهم، لأنهم لن يكسبوها عسكرياً حيث أن ميزان القوى بينهم وبين الجيش المستعمر مختل بشكل هائل لصالح المستعمر، لذلك يكفيهم أن يبقوا عدوهم في حالة أرق وتوتر واستنفار و حشد دائم للقوات، وهو في الحالة الأمريكية الراهنة أمر مكلف مادياً إلى حدود لا نهاية لها. يكفيهم أن يبقوا العدو بحالة استنفار دائم لينزف اقتصاديا حتى ينتصروا، لأنه في لحظة ما ستنهض قوى داخل المركز الإمبريالي تطالب بوقف هذا النزف الاقتصادي وإنهاء هذه الحرب التي لا سبيل لكسبها. وسيضطر المحتل لمفاوضة المقاومة و الرضوخ لشروطها ليوقف خسائره الاقتصادية، فبالرغم من كل ما يقال عن المشاريع الإمبراطورية وعن هيبة الولايات المتحدة وكرامتها فهم يعرفون كيف يدوسون على كرامتهم و على هيبتهم فيتراجعون ببساطة عندما يخسرون النقود لأنهم عبيد للمال ولا قيمة عندهم لشيء سواه. فإن أردت أن تنتصر اجعلهم ينزفون اقتصادياً.

ليست هناك تعليقات:

آخر الأخبار

حلبجة.. الحقيقة الحاضرة الغائبة

إقرأ في رابطة عراق الأحرار